الحديث الرمضاني(14) 3-4-2024 اشكالية التقدير يعطل مفعول الدعاء ليلة القدر؟
هل التقدير يعطل مفعول إحياء ليلة القدر؟ وبتعبير اخر اذا كان اصل التقدير والقضاء قد جرى وتقرر في الأزل وان الملائكة والروح في كل سنة ينزلون لابلاغه واطلاع حجة الله في الارض عليه فيستحيل ان يغير بدعاء او استغفار او احياء لليلة القدر ؟ لانه لا يمكن بعد ذلك محو ما قدر الله وتغيير ما كتبه ! فلماذا اذن نتعب انفسنا بالاحياء والتضرع الى الله ليلة القدر طالما ان التقدير كان موجودا من الازل والملائكة والروح هم مجرد وسيلة لابلاغه؟!!
والجواب:
ان تغيير مصير الانسان واحواله بالأعمال الصالحة او بالاعمال السيئة أمر ممكن ولا يتنافى ذلك مع ما يقدره الله في علمه في الازل.
وبتعبير اخر: الإنسان ليس محكوماً بمصير واحد ومقدّر غير قابل للتغيير، بل المصير والمقدّر يتغيّر ويتبدّل باحياء ليلة القدر والدعاء فيها والاستغفار والتوبة وبالطاعة والتقوى بشكر النعم والصدقة والاحسان للوالدين وغير ذلك من الأُمور ، من دون أن يمسّ ذلك بعلم الله سبحانه بأن يوجد فيه التغيّر والتبدّل.
ونوضح ذلك بما يلي:
اولا: دلّت الآيات والأحاديث الصحيحة على أنَّ الإنسان قادر على تغيير مصيره بأفعاله الحسنة وأعماله الصالحة، مثل الدعاء والاستغفار والتوبة والصدقة والإحسان وصلة الأرحام وبرّ الوالدين وشكر النعمة ، إلى غير ذلك ممّا يوجب تغيّر المصير وتبدل المقدر السيّء ، إلى المقدر الحسن، كما أنّه قادر بسبب الأعمال السيئة والمعاصي على تغيير مصيره من الحسن إلى السيّء بارتكاب السيئات والموبقات. فليس الإنسان محكوماً بمصير واحد ومقدّر غير قابل للتغيير ، ولا أنّه يصيبه ما قدّر له شاء أم لم يشأ ، بل المصير والمقدّر يتغيّر ويتبدّل بشكر النعم ، أو كفرانها ، وبالتقوى والمعصية إلى غير ذلك من الأُمور ، من دون أن يمسّ ذلك بكمال علم الله سبحانه بأن يوجد فيه التغيّر والتبدّل.
وهناك آيات كثيرة وروايات صحيحة تنص على تغيير المصير بعمل الإنسان نذكر منها :
اما ايات القرآن الدالة على تأثير عمل الإنسان في تغيير مصيره فهي كثيرة منها:
ـ قال سبحانه : ( وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَـٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) (۲۱).
ـ وقال سبحانه : ( وَمَن يَتَّقِ اللَّـهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ )
ـ وقال سبحانه : ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ )
ـ وقال سبحانه : ( وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ ... )
وهناك آيات أخرى تدلّ على تأثير الأَعمال الطالحة في تغيير المصير كقوله تعالى : ( وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّـهِ فَأَذَاقَهَا اللَّـهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ )
اما الروايات الدالة على تأثير العمل في تغيير المصير فمنها:
- ما عن الإمام الباقر ( عليه السلام ) : « صلة الأرحام تزكي الأعمال ، وتُنمي الأموال ، وتدفع البلوى ، وتُيسر الحساب ، وتنسئ في الأجل » .
ـ وعن الصادق ( عليه السلام ) : « إنَّ الدعاء يرد القضاء ، وإنَّ المؤمن ليذنب فيحرم بذنبه الرزق » .
ـ وعن الإمام موسى الكاظم ( عليه السلام ) : « عَلَيكُم بِالدُّعاءِ ، فَإنَّ الدُّعاءَ للَّهِِ ، وَالطَّلَبَ إلى اللَّهِ يَرُدُّ البَلاءَ وَقَد قُدِّرَ وَقُضِيَ وَلَم يَبقَ إلّا إمضاؤهُ ، فإِذا دُعِيَ اللَّهُ عزّوجلّ وسُئلَ صَرْفَ البَلاءِ صَرَفَهُ » .
- وعن الإمام أبو الحسن الرضا ( عليه السلام ) : « يكون الرَّجُل يَصِلُ رَحِمَه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيره الله ثلاثين سنة ويفعل الله ما يشاء »
ـ وعن أبي هريرة عن النبي قال : « لا يردّ القضاء إلّا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلّا البرّ » .
ثانيا: ان الله في مجال التكوين والخلق وفي مجال التشريع يمكن ان يغير ويبدل كيفما يشاء فنحن لا نقول كما قال اليهود من أن الله قد فرغ من الأمر وانتهى من الإيجاد والتكوين فصار مكتوف اليدين ، ومسلوب القدرة، ولا يستطيع ان يغير ويبدل ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّـهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا ۘ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ) يعني بل يغير ويبدل ساعة شاء وكيفما يشاء، وهذا هو صريح القران الكريم حيث يقول تعالى: ( يَمْحُو اللَّـهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ).
فالله سبحانه باسطُ اليدين في مجال التكوين والتشريع، يقدّم ما يشاء ويؤخّر ما يشاء ويثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء لا يمنعه من ذلك مانع.. وهذا هو القرآن الكريم يصرح بان الله تعالى : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) .
ويقول تعالى أيضاً : (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّـهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ) فالخلق والإيجاد والتدبير من الله مستمر ومتواصل، ولم يتوقف اويفرغ من الامر كما زعم اليهود..
والخلاصة: ان تغيير المصير والمقدّر بالأعمال الصالحة والطالحة ممكن. فليس الإنسان في مقابل التقدير مسيّراً بل هو مخيّر في أن يغيره بصالح أعماله أو بطالحها، حتّى أنَّ هذا ـ تمكن الإنسان من تغيير المصير بالعمل ـ أيضاً جزء من تقديره سبحانه.
بما أنّه سبحانه ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) وبما أنَّ مشيئته حاكمة على التقدير ، وبما أنَّ العبد مختار لا مسيّر ، فله أن يغيّر مصيره وما قدره الله له باعماله ويخرج في شهر رمضان وفي ليلة القدر ببركة احيائه لها وتوبته ودعائه فيها من عداد الأشقياء ويدخل في عداد السعداء ، كما أنَّ بامكانه يفعل عكس ذلك.
ولا يعد تغيير التقدير الإلهي بسبب حسن الفعل أو سوئه معارضاً لتقديره الأوّل سبحانه ، لإنَّ الله سبحانه إذا قدّر لعبده شيئاً وقضى له بأمر ، لم يقدره على وجه القطع والحتم ، بحيث لا يتغيّر ولا يتبدّل ، بل يقدره على نحو خاصّ ، بان يقدّر للانسان مثلا ان يعيش خمسين سنة اذا لم يتصدق او ان يملك رزق بمئة الف ان لم يكفر بالنعمة ، فإذا غيّر الانسان وتصدق يقدر الله له 80 سنة واذا كفر بالنعمة تغير التقدير وصار يملك 10 فقَدَر الله يتغير وفق الاسباب ، فيصبح محل القدر الاول قَدَرٌ آخر ، ومكان القضاء الاول قضاء آخر. والجميع ـ اي القدر الاول والقدر الثاني هو قدرالله ، وهذا هو البداء الّذي تعتقد به الإماميّة .