الحديث الرمضاني(5) 19-3-2024 العصمة اختيارية
قلنا ان الهدف من بعثة الانبياء هو هداية الناس إلى دين الله، فاذا كان الانبياء غير معصومين ويمكن ان يقعوا في الخطأ والغفلة والنسيان والسهو والمعاصي والتمرد على الله ـ والعياذ بالله ـ فان ذلك يجعل الناس لا يثقون بما يقولون ويفعلون ، لأنّ احتمال الخطأ والنسيان والسهو حينئذٍ في كلّ ما يقولونه او يفعلونه او يدعون الناس اليه وارد بقوة، فلا يقبل الناس دعوتهم وينفر الناس منهم، وهذا خلاف الهدف من بعثة الانبياء وهو هداية الناس.
فإذا كان الهدف من ارسال الانبياء هو هداية الناس فلا بد أن يكون كلّ قول وفعل يصدر من الانبياء مطابقاً للواقع، ولما يريده الله ، ولا احتمال للخطأ فيه، وأن يكونوا بعيدين كلّ البُعد عن كلّ ذنب ونسيان وسهو ، وإِلّا فلو كان من المحتمل أن يخطأ النبيّ أو الإمام فمن أين يعرف الناس أنّ ما يقوله أو يفعله صحيح ومطابق للواقع كي يأخذوا به فلعله خطأ وسهو وغفلة منه.
فالعقل يحكم إذاً بضرورة عصمتهم عن الخطأ والنسيان والغفلة والسهو في كلّ أقوالهم وأفعالهم.
ويمكن نقرب هذا الدليل بصيغة اخرى هي ان الله امرنا ان نأخذ بما امر به الانبيا، ، واوجب علينا التمسك بما جاؤوا به، فاذا كان يحتمل ان يخطئوا او ينسو او يسهو او يخالفوا ما يأمرون الناس به، فهذا لا ينسجم مع وجوب اتباعهم والتمسك بما جاؤوا به فلا بد من عصمتهم.
ولا شك ان العصمة ليست ذاتية وجبرية بل اختيارية وكسبية، يحصلها المعصوم بارادته واختياره، نتيجة العقل الكامل والفطرة السليمة والعلم بالله والمعرفة التامة بأحكامه وتشريعاته، وطبعا اضافة الى الرعاية الالهية والتوفيق والتسديد الرباني على قاعدة (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ).
فالذي يدفع الانسان نحو طاعة الله والابتعاد عن معاصيه عدة امور تشكل حقيقة العصمة، التي هي قوة في النفس تعصم الإنسان عن مخالفة الله سبحانه وتعالى:
اولا: علم الانسان اليقيني بحقائق الامور وبعواقب الذنوب وآثارها ونتائجها ، فالانسان الذي بان المعصية تساوي العذاب في النار فان هذا يخلق في نفس الإنسان وازعاً يصدّه عن ارتكابها مثل ما لو علم الانسان ان في الكوب سما فانه لا يمكن ان يشربه مهما كان عطشانا لانه يعلم ان الشرب يعني الموت.
فالانسان الذي يعلم علم اليقين بنتائج التمرد على الله وانه العذاب في الجحيم مثلا لا يمكن ان يقدم على المعصية او يتمرد على الله بمخالفة امره،(كلا لو تعلمون علم اليقين. لترون الجحيم). فمثل هذا العلم يخلق من صاحبه إنساناً معصوماً لا يخالف أوامر ربه و لا يتعدى الحدود التي رسمها له في حياته.
الانسان الذي يعلم أن أي تمرد على الله تعالى هو بمثابة شرب السم القاتل ، أو بمثابة من يضع يده على خط كهرباء التوتر العالي . لا يمكن أن يقدم على أمر كهذا أبداً . . إذا كان يملك عقلاً راجحاً ، وفطرة سليمة ، وسوف يجد كل من يحبه ، ويرأف به ، ويعطف عليه ، على استعداد لأن يعينه في الابتعاد عن هذا الخطر . . وليس ثمة أرحم وأعطف وأرأف من الله تعالى بعباده . . ولا بد أن يساعدهم ، ويسددهم ، ويفتح لهم أبواب الهداية والرحمة حين يسعون للابتعاد عن الأخطار.
والأنبياء واهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، منذ أن وجدوا ، ومنذ صغرهم، هم يرون الحقائق وويدركون حقائق الاشياء وابعادها ويعرفون عواقب الذنوب والمعاصي، هم عرفوا الله وخضعوا له ، وسعوا إلى نيل رضاه، وحصلوا على الهدايات التي طلبوها من الله ، وزادهم ذلك صلابة ومناعة وقوة في دينهم ، ثم زادهم قرباً منه ، وبعداً عن المعاصي ، وحصانة منها.
نحن نرى أن بعض الناس يظهر عليه التميز في سن مبكرة كأولئك الذين يحفظون القرآن ، ويتصرفون فيه بدرجات عالية ، وهم في سن الطفولة ، وبعمر السنتين ، والثلاث سنوات . . فما بالك بصفوة الخلق ، وخيرة الله ، فلا يمكن أن يكونوا أقل شأناً ، وأضعف إدراكاً ، وأدنى من أولئك تميزاً ، وتفرداً، وهم الذين الين عاشوا في ظل رعاية الله وشملتهم الألطاف والعنايات الإلهية .
ثانيا: الاستشعار بعظمه الله وجلاله وقدرته و التفافي في حُبه وعشقه، فإذا عرف الإنسان خالقه و ربه و أنجذب إلى حبه وعشقه أصبح كل ما يخالف أمره ورضاه منفوراً لديه، مقبوحاً في نظره أشد القبح، و تلك هي درجة العصمة الكاملة و لا ينالها إلاّ الأوحدي من الناس.
و إلى هذا يشير الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام) بقوله:(ما عبدتُك خوفا من نارك ولا طمعاً في جنتك، إنما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك)
وأما لماذا لم تكن العصمة إجبارية ، فلإن ذلك معناه انه لا فضل لهم فيما يفعلونه من طاعات وما يتركونه من محرمات، ويصبح اكثر الناس تمردا على الله وعصيانا لله وأشقى الأشقياء أفضل من أفضل الأنبياء بمجرد أن يفعل حسنة واحدة في حياته . هذا اولا.
وثانيا: أن ذلك يخدش في العدل الإلهي اذ كيف يساوي الله في الثواب بين من اقدم على الطاعات جبرا وبين من قام بها بارادته؟ وكيف يساوي بين من امتنع عن المعصية جبرا وبين من امتنع بارادته؟ هذا يثير أكثر من شبهة ، ويطرح العديد من التساؤلات حول حقيقة هذا العدل ، وصحة التدبير الإلهي . .
واخيرا العصمة هي فرع من التقوى في الناس العاديين ، فإذا ترقت التقوى في درجاتها وارتفعت في مراتبها فانها تبلغ بصاحبها درجة العصمة الكاملة والامتناع المطلق عن ارتكاب السيئات بل يمتنع معها حتى عن التفكير في المعصية.