الحديث الرمضاني(2) التوبة وخيار التراجع عن الخطأ
دعانا القرآن الكريم إلى التوبة, واستعمل في الدعاء إليها كلمات ملؤها الرحمة, مع علمنا جميعا بأن الله تعالى غني عن عذابنا, وغني أيضاً عن عبادتنا, يقول تعالى:﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رحْمَةِ اللهِ إِن اللهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعًا إِنهُ هُوَ الْغَفُورُ الرحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُم لَا تُنصَرُونَ﴾ .
دعوة الله تعالى لنا للتوبة والإنابة هي لأجل:
1 - أنه رحيم بنا, ومن صفات الرحيم أن يقبل عذر المعتذر ويعفو عن المذنب
يقال: لما دعا نوح (على نبينا وآله السلام) على الكفار من قومه وأخذهم الطوفان، ظهر له مَلَك - وكان النبي نوح يعمل في صناعة الجرار؛ فكان يصنع الجرة من الطين، وبعد أن تجف يبيعها - فكان المَلَك يشتري منه الجرار واحدة فواحدة ويكسرها أمامه.. فغضب نوح وسأله عن السبب.. فقال له: الأمر لا يعنيك فأنا قد اشتريتها وأمرها إلي.
فقال له نوح عليه السلام : صحيح، ولكن أنا الذي صنعتها، وهي من صنعي.
قال له الملك: أنت صنعتها ولم تخلقها ومع هذا فقد غضبت على كسرها، فكيف دعوت على كل عباد الله فهلكوا، مع أن الله خلقهم ويحبهم؟ فبقي من بعد هذه القضية يبكي وينوح حتى سُمي نوحاً لكثرة نياحه.
والغرض من هذه القصة هو الإشارة إلى شفقة الخالق، فهو تعالى يحب مخلوقاته..
2 – أن التوبة هي باب الأمل الوحيد للمؤمن ليتخلص من عذاب الضمير فلو لم يكن هناك مجال للتوبة لقضى اللانسان عمره متألما ولسيطر عليه القنوط, لأن كل البشر خطاؤون إلا من عصم الله, وقد نهى الله تعالى عن القنوط من رحمته. يقول عز من قائل:﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رحْمَةِ اللهِ إِن اللهَ يَغْفِرُ الذنُوبَ جَمِيعًا إِنهُ هُوَ الْغَفُورُ الرحِيمُ﴾6 .
والمطلوب من التائب امور:
1-الإقرار بما أقدم عليه أمام الله تعالى مثل تقف أمام الصديق الذي أسأت بحقه لتقول له سامحني فقد اقترفت بحقك كذا وكذا .
الإقرار بالذنب هو اعتراف، وهو أيضاً شكل من أشكال الاعتذار, كما روي ذلك عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: "الإقرار اعتذار، والإنكار إصرار"1.
2-الندم فإن الإقرار لا يعني شيئاً فيما لو كان الإنسان مقراً بما فعل وهو في نفس الوقت مفتخر به, لذا فإن المطلوب زيادة عن الإقرار الندم, وهو إظهار حالة الأسى والحسرة على سوء ما ارتكبه. وبدون الندم فإن الإقرار يُعتبر مجاهرة وجرأة على الذي قد عُصيَ أمره.
3-اعادة الحقوق لاصحابها فأن يعود السارق لمن سُرق ماله ليقول له سامحني، ويدير ظهره ولا يُرجع له ما سرق منه تصرف لا يقبله أي منا, بل يناقض كل الأعراف, فعلى السارق إن ندم أن يعيد ما سرق.
وكذا المسألة في التوبة, فصحيح أن التوبة كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : "التوبة تجب ما قبلها"1 , وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"2 ، إلا أن بعض الذنوب ليس من هذا القبيل، فليس قول المرء (أستغفر الله تعالى) ماحٍ لكل الذنوب, فكيف نعالج هذه المسألة؟ الذنوب نوعان:
1 - الذنوب التي هي من حق الله تعالى أن يستغفره المرء عليها, ومثال هذا ترك الواجبات العبادية, كالصلاة والصوم, فهذه الذنوب لا يستطيع أي من العباد أن يطالب العاصي بها, لأنها لله تعالى. هذا النوع من الذنوب يكتفي فيه العبد بالأمور التالية:
أ- الاعتراف بالذنب.
ب- الندم.
ج - العزم على عدم العودة وهو الثبات الذي مر معنا.
د - قضاء ما فات من الصلوات والصوم.
والله تعالى حينها إن علم صدق التائب في توبته يقبلها منه برحمته، فعن الإمام علي عليه السلام: "التوبة تستنزل الرحمة"3 .
2 - الذنوب التي تتضمن حق الله وحق الناس, أما حق الله تعالى فقد تقدم, وأما حق الناس فعلى التائب أن يصلح ما بينه وبينهم. ومثال الذنوب المشتركة الغيبة, فهي من الكبائر وفي نفس الوقت تتعلق بذِمم الناس وكرامتهم, وكذا السرقة, وإيذاء المؤمن, ومال السحت الذي قال الفقهاء إنه بحكم مجهول المالك، فعليه أن يرجعه للولي الفقيه للتصرف فيه,
نوعا التوبة
وكما أن للاعتذار من الصديق أساليب تتناسب مع الخطأ الذي ارتُكب بحقه, فإن الأمر كذلك مع الله تعالى. لهذا قُسمت التوبة إلى:
1- توبة العلن:
وهي التي تستدعي أن يعلن الإنسان توبته أمام الناس جميعاً, وتكون من الذنوب التي جاهر بها في حياته كشرب الخمر علناً واللعب بالقمار علنا.
2- توبة السر:
من الذنوب التي فعلها الإنسان بينه وبين ربه, كالنظر الحرام, وظن السوء, وسائر المحرمات, وقد جاء في الحديث عن رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم:أحدث لكل ذنبٍ توبة: "السر بالسر والعلانية بالعلانية"5 .
3-رمضان-1439