ضوابط ومعايير في استخراج السيرة الصحيحة (3)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين.
بعد أن اتضح لدينا في الحلقة الماضية:أنه كان هناك خطةٌ مدروسة قديماً وحديثاً للنيل من شخصية النبي(ص) وصورتِه المشرقة وسيرتِه العطرة.
وبعدما عرفنا أن هذه الخطةَ نفذت قديما عن طريق دس نصوص مختلقة ومزيفة في كتب السيرة والتاريخ من قبل بعض الحكام تسيءُ إلى رسول الله وتنسبُ إليه ما لا يليق به, وطُبقت حديثا من خلال بعض وسائل الاعلام الغربية والرسوم الكاركاتورية والافلام السنمائية، لذلك من الضروري جداً إذا أردنا أن نكون صورةً واضحة ونقية عن حياة وسيرة رسول الله(ص) بعيدا عن تلك الصورة المشوهة. لا بد من أن نعتمد على مصادرَ صحيحة,ومعاييرَ وضوابطَ تكون قادرةً على إعطائنا الصورةَ الحقيقية الأكثرَ نقاءً وصفاءً وواقعيةً عن شخصية النبي, وتكون قادرةً أيضاً على إبعاد ذلك الجانب المصطنع والمزيف عن محيطنا الفكري والعملي بصورة كاملة.
فما هي تلك المصادر التي ينبغي اعتمادها لاستخراج سيرة رسول الله (ص)؟
وما هي تلك المعايير والضوابط والقواعد التي يجب أن نعتمدَهَا لتمييز النصوص الصحيحة من النصوص المزيفة؟؟
في الحقيقة هناك عدةُ مصادر يمكننا أن نستخلص بالاعتماد عليها معالمَ شخصية النبي وتفاصيلَ حياته وسيرته وهي:
أولاً: القرآن الكريم, فإن القرآن الكريم أعطى صوراً واضحة ورائعة عن شخصية النبي وصفاتهِ وخصائصهِ ومواقفهِ في كثير من السور والآيات, ويستطيعُ قارئُ القرآن بالتدبر التام في الآيات التي نَزلت في شأن رسول الله, أن يحيط بمختلف جوانب شخصيته وحياته منذ أن بعثه الله إلى أن فارق هذه الحياة.
فقد أشار القرآن مثلاً إلى مكانة النبي ومنزلته وعظمته, في سورة الحجرات والنور والأحزاب وغيرها, وأشار إلى أسمائه وألقابه في سورة الصف وآل عِمران والمائدة. وأشار إلى صفاته وخصائصه كالعصمة والطهارة والرأفة والرحمة والعطف والشجاعة في سورة آل عمران والتوبة والأحزاب والأنبياء وغيرها.
واشار القرآن إلى أخلاق النبي وإلى صبره وثباته في مواقع المواجهة والتحدي وإلى طريقة تبليغه للرسالة وإلى مواقفه من عدم استجابة قومه لدعوته والى غير ذلك مما يرتبط بحياته وسيرته في كثير من الآيات والسور.
فالرجوعإلى نفس القرآن واستخراج سيرة النبي وصفاته وأفعاله من خلال ما عرضته الآيات يعتبرُ من أوثق وأصحِ الطرق والمصادرِ لدراسة شخصية النبي وتكوينِ صورةٍ واضحةٍ ونقية عن حياته وأخلاقه وعلاقاته ومواقفهِ وقيادتهِ والتحدياتِ التي واجهها في طريق الدعوة وغيرِ ذلك.
ثانياً: من مصادر السيرة ايضا: النصوصُ الواردةُ عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) التي عرضت لسيرة وحياة رسول الله, فإن هذه النصوص تعتبر بعد القرآن أحدَ أهم المصادر التي نأخذ منها خصائصَ ومميزاتِ شخصية النبي وتفاصيلَ حياته, على اعتبار أن أهل البيت(ع) أدرى بما فيه. وخصوصاً ما ورد عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) الذي لازم رسول الله في جميع مراحل حياته, وكان يتبعه اتباع الفصيل أثر أمه, ويراه في الأوقات التي لا يراه فيها غيرُه.
وقد ورد عن أئمة أهل البيت(ع) مئاتُ بل آلافُ النصوص والروايات التي تحدثت عن حياة رسول الله العامة والأحداثِ الكبرى التي عاشها في حياته, وعن حياته الشخصية والخاصة, وقد جمعنا هذه النصوص في مؤلف مستقل صدر في عشرة اجزاء عن دار الهادي في بيروت بعنوان (السيرة النبوية برواية ائمة اهل البيت(ع)).
وثالثاً:من المصادر: الروايات التاريخية المروية بالتواتر عن المسلمين الأولين.
فالنصوصُ المرويةُ عن الصحابة والتي تتحدث عن سيرة النبي تعتبر من مصادر السيرة والتاريخ, إذا ثبتت صحتُها بالتواتر أو بإحدى وسائل الإثبات الأخرى.
أما النصوص والرواياتُ التاريخيةُ الأخرى التي لم تروَ عن أئمة أهل البيت(ع) ولم تكن متواترة, فلا بد إذا أردنا تقييمَ هذه النصوص من أن نعتمد ضوابطَ وقواعدَ نستطيعُ من خلالها تمييزَ النص الصحيح الذي يعكِسُ الواقعَ التاريخي بصورة صادقة من النص المصطنع أو المحرف.
وأهم الضوابط والقواعد التي ينبغي اعتمادها في هذا المجال هي:
أولاً: دراسة أحوال وأوضاعِ الناقلين للحديث, فإن أول ما ينبغي ملاحظتُه في الحديث المنقول هو سندُه, والسند هو عبارة عن مجموع أسماء الأشخاص الذين نقلوا لنا الحديث أو الحدث التاريخي, فلا بد من دراسة أحوال وأوضاعِ هؤلاء الرواة لمعرفة ميولهم وارتباطاتهم السياسية والمصلحية, ولمعرفة مدى صدقهم ودقتهم فيما أخبرونا به وبالتالي مدى إمكانية الوثوق والاعتمادِ على نقلهم.
وطبيعي أنه من عُرف عنه أنه يكذب في خبره أو لا يدقق ولا يحقق فيه, فلا يمكن الاعتماد على خبره وحديثه, إلا بعد أن نتأكد من صحته من مصادرَ وجهاتٍ أخرى.
وكذلك حالُ من عُرفَ عنه أنه ينساقُ وراءُ هواه السياسي أو المذهبي في الأخبار التي ينقلها, أو يستسلمُ لمشاعره العرقية, أو يتعصب لبلد أو طائفةٍ أو جهةٍ معينة, فإنه لا يمكن الأخذ بما ينقله لنا لأنه يكون بذلك قد أخل بدرجة الوثوق والاطمئنان بالنص الذي ينقله.
وثانياً: من الضوابط التي ينبغي اعتمادها ايضا: أن يكون مضمونُ النص الذي يحكي لنا فعل وسلوك النبي منسجماً مع صفات وخصائصِ الشخصيةِ النبوية ومميزاتِها, فإذا جاء النصُ منسجماً ومتناسباً مع الوضع الطبيعي لشخصية رسول الله المثالية بما لها من خصائصَ ومميزاتٍ رسالية, فإنه يكون مقبولاً ونأخذُ بمضمونه, إذا توافرت فيه سائرُ شروطِ القبول الأخرى.
فمثلاً: إذا ثبت لدينا بالدليل القطعي الصحيح أن شخصية النبي هي في أعلى درجات الطهر والعصمةِ والحكمةِ والشجاعة, وأنه يتحلى بكل الصفات النبيلةِ والسامية, وانه جامعٌ لكل القيمِ الإنسانية , فلا بد من جعل كلِ ذلك معياراً وميزاناً لأي نصٍ يرِدُ بشأنه ويريدُ أن يُسجل لنا قولاً أو فعلاً أو سلوكاً أو موقفاً له(ص).
فإذا جاء النص منسجماً مع هذه الخصائصِ والمميزاتِ الثابتة بالدليل القطعي الصحيح فإنه يكون مقبولاً وإلا إذا لم يتوافق مع هذه الصفات فلا يمكنُ قبولُه, كما لو نَسَبَ النصُ الرذيلةَ أو الفجورَ لرسول الله أو عبادةَ الأصنام أو التصرفاتِ التي تعبر عن جهله أو عدم اتزانه, فإننا لا نترددُ في رفضِ مثلِ هذا النص.
فكما أننا لا يمكن أن نقبلَ أن يكون مرجعٌ دينيٌ معروفٌ بالورع والتقوى قد ألف أغنيةً أو لحنها للمغنية الفلانية مثلاً, فكذلك لا يمكنُ أن نقبلَ أن تُنسبَ إلى رسول الله (ص)أو إلى أحدِ أئمةِ أهلِ البيت(ع) تصرفاتٌ هي مثلُ ذلك أو أقبحُ وأسوأُ من ذلك.
وثالثاً:من الضوابط ايضا: عرضُ النصوص التاريخيةِ على القرآن الكريم، فما وافق كتاب الله نأخذ به وما خالفه نتركه, وهذه قاعدةٌ لا بد من أن نعتمدها ليس في أحاديث سيرة النبي فقط بل في كل الأحاديث المنقولة عنه أو عن أحدٍ من أئمة أهل البيت(ع) سواءُ كانت تاريخاً أو فقهاً أو أخلاقاً أو غيرَ ذلك.
فقد روي عن النبي(ص) أنه قال: تكثر لكم الأحاديثُ بعدي, فإذا روي لكم عني حديثُ فاعرضُوهُ على كتاب الله فما وافق كتابَ الله فاقبلوه وما خالف فردوه.
وعن الإمام الصادق(ع) أنه قال: ما لم يوافق كتابَ الله فهو زخرف.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين