المغفرة مشروطة بالتوبة (16)
بسم الله الرحمن الرحيم
(قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً انه هو الغفور الرحيم ،وانيبوا الى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون ،واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم من قبل أن يأتيكم العذاب بغتةً وأنتم لا تشعرون). الزمر /53/54/55.
تحدثنا في الحلقة الماضية حول الآية الاولى من هذه الآيات الثلاث وقلنا: ان الاية الاولى تفتح ابواب المغفرة والرحمة الالهية امام الجميع من دون استثناء ،وتدعو الناس الى عدم اليأس والقنوط وعدم فقدان الأمل بمغفرة الله ورحمته،وإنها تؤكد حقيقة هامة هي : ان جميع الذنوب مهما كانت عظيمة وكبيرة فهي قابلة للمغفرة والعفو لان الله يغفر الذنوب جميعا انه هو الغفور الرحيم .
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو : هل الوعد الذي اعطاه الله في الاية الاولى بغفران جميع الذنوب هو وعد مطلق بحيث ان الله يغفر للمذنبين والعاصين وإن لم يتوبوا ويعودوا الى الله ،ام هو وعد مشروط بالتوبة والانابة الى الله؟
والجواب على هذا التساؤل يتضح من خلال الاياتين الثانية والثالثة بصورة جيدة ،لان هناك ثلاثة أوامر وردت في هاتين الايتين وضحت كل شيء بهذا الخصوص:
الامر الاول : أنيبوا الى ربكم ،والأمر الثاني : وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب، والأمر الثالث : واتبعوا أحسن ما أنزل اليكم من ربكم .
هذه الأوامر الثلاثة تقول : إن ابواب المغفرة والرحمة مفتوحة أمام الجميع من دون استثناء ولكن بشرط ان يعودوا الى الله ويتوبوا اليه من ذنوبهم وآثامهم ،وأن يستسلموا لاوامر الله ونواهيه،وأن يظهروا صدق توبتهم وإنابتهم واستسلامهم بالعمل والممارسة .
فالعفو العام والرحمة الواسعة التي وعد الله بها العاصين والمسرفين على انفسهم في الاية الاولى ،مشروطة بشروط مذكورة في الاية الثانية والثالثة وهذه الشروط لا يمكن ان يتجاهلها الانسان اذا اراد ان يدخل الى ساحة الرحمة الالهية.
وعلى هذا الاساس فكل من يريد ان يحصل على عفو الله ومغفرته ويريد ان يصل الى ساحة الرحمة الالهية يجب ان يخطو هذه الخطوات الثلاث:
الخطوة الاولى: التوبة والندم على الذنب والتوجه الى الله ( وانيبوا الى ربكم ) .
الخطوة الثانية : الايمان بالله والتسليم له في كل ما أمر به وفي كل ما نهى عنه.
الخطوة الثالثة : العمل الصالح وقد عبرت الاية الثالثة عن هذه الخطوة بقوله تعالى:(واتبعوا احسن ما أنزل اليكم من ربكم ) اي اعملوا بأحسن ما امركم الله به وهو الواجبات والمستحبات .
فاذا استطاع الانسان ان يجتاز هذه المراحل الثلاث يكون قد دخل الى ساحة عفو الله ورحمته الواسعة طبقاً للوعد الالهي المؤكد مهما كان ذلك الانسان مثقلا بالمعاصي والذنوب. وهكذا نجد من خلال هذه الايات ان التوبة هي الشرط الاساس للعفو والمغفرة وللحصول على رحمة الله .
وحقيقة التوبة هي : ان يحصل لدى الانسان المذنب تفاعل داخلي ويندم على ما فعله من ذنوب في الماضي ويندم على كل عمل خالف فيه رضا الله سبحانه بحيث يدفعه هذا الندم الى ان يقرر ان لا يرتكب تلك الذنوب مرة اخرى.
ومن هنا فان التوبة لا تتحقق الا بثلاثة شروط:
الاول :ان يمتنع الانسان عن المعصية ،الثاني: ان يندم على فعلها بحيث يشعر الانسان بالحسرة والخجل وتأنيب الضمير ،الثالث : ان يقرر عدم العودة الى المعصية مرة اخرى.
ولذلك فلا يكفي في التوبة ان يقول الانسان استغفر الله وأتوب اليه مجرد كلمة سطحية خالية من أي مضمون.
فقد روي في نهج البلاغة أن شخصاً قال في محضر أمير المؤمنين (ع): استغفر الله واتوب اليه ،،فقال له الإمام : ثكلتك امك اتدري ما الاستغفار؟؟ ان الاستغفار درجة العلين ، وهو اسم واقع على ستة معان :اولها الندم على ما مضى ،الثاني : العزم على ترك االعود اليه ابدا،الثالث : ان تؤدي الى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله سبحانه أملس ليس عليك تبعة،الرابع:ان تعمد الى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها ،الخامس :ان تعمد الى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالاحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ لحم جديد والسادس : ان تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية ذلك قول استغفر الله .نهج البلاغة /قصار الحكم/417.
هذا الحديث يدل على انه لا بد ان يتوافر ركنان اساسيان في التوبة هما : الندامة على الذنب والعزم على عدم العودة اليه ابداً ، وبالاضافة الى ذلك لا بد حتى تقبل توبة الانسان المذنب من ان يحقق شرطين مهمين من شروط قبول التوبة هما : اولا: ان يرجع كل ما اخذه من الناس من دون حق الى اصحابه،ثانيا: ان يقضي كل الفرائض والواجبات الالهية كالصلاة والصوم وغيرهما التي كان قد تركها وتخلف عن ادائها في الماضي قبل التوبه واذا لم يستطع ان يقضي كل ما عليه فان عليه ان يؤدي المقدار الذي يستطيعه ويقدر عليه قدر الامكان،فاذا استطاع الانسان ان يحقق كل ذلك فندم على ما صدر منه من ذنوب وقرر بصدق وجدّ ان لا يرتكب المعاصي مرة اخرى ،فانه يكون قد سلك طريق التوبة والعودة الى الله ومهما كان الانسان غارقا في الذنوب فان توبته الصادقة تطهر قلبه وتزكي نفسه.
الانسان التائب يولد ولادة جديدة يرجع قلبه الى حالته الطبيعية والفطرية طاهراً من آثار وظلمات الذنوب والمعاصي ،ويكون الانسان التائب من الذنب كمن لا ذنب له كما ورد في الاحاديث.
واذا سلك الانسان طريق التوبة وقبل الله توبته فعند ذلك تغمره التوفيقات والالطاف الالهية وتشمله المغفرة والرحمة الالهية الواسعة ومحبة الله ،ويصبح من التوابين الذين يحبهم الله حسب نص القرآن ( ان الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) .
اما كيف يغفر الله ذنوبه ومعاصيه ويمحو عنه كل ما في الماضي.فهذا ما أوضحه لنا الإمام الصادق (ع) في حديث مروي عنه حيث روي انه قال : اذا تاب العبد توبة نصوحاً، احبه الله فستر عليه في الدنيا والاخرة ،فقيل له : وكيف يستر عليه؟ قال: ينسي ملكيه ما كتبا عليه من الذنوب ،ثم يوحي الى جوارحه ان اكتمي عليه ذنوبه،ويوحي الى بقاع الارض ان اكتمي عليه ما كان يعمل عليك من الذنوب ،فيلقى الله حين يلقاه وليس عليه شيء يشهد بشيء من الذنوب.
ولاجل كل ذلك فانه يجب على الانسان ان يبادر الى التوبة من كل ذنب كبير او صغير ،خاصة في شهر رمضان حيث ابواب الرحمة مفتوحة فيه للجميع كما قال رسول الله (ص) : ايها الناس إن ابواب الجنان في هذا الشهر مفتحة فاسألوا ربكم ان لا يغلقها عليكم .
ولا يجوز للانسان ان يسوّف في موضوع التوبة بأن يقول غداً اتوب او بعد غد اوفي السن الفلاني ،إذ من الذي يضمن لنفسه ان يعيش الى غد او الى السن الفلاني ولا يدركه الموت فجأة وعلى حين غفلة وهو مستغرق في الذنوب والمعاصي،لذلك يجب على الانسان ان يبادر الى التوبه والعودة الى خط الله قبل فوات الآوان، ويجب ان تكون عودته صادقة وان تحدث انقلاباً وتغيراً في داخله،ومن ناحية ثانية يجب ان يبدأ الانسان بعد توبته وعودته الى الطريق الصحيح عمليات الاعمار وتجديد البناء لأسس الايمان والعقيدة التي كانت قد دمرت بفعل الذنوب .ومن ناحية ثالثة :يجب ان يصلح عجزه الروحي وسوء خلقه بالاعمال الصالحة ،فكلما كانت الذنوب السابقة كبيرة فان عليه ان يقوم بالاعمال الصالحة اكثر ،وهذا هو بالتحديد ما يبنه القرآن الكريم في الآيات الثلاث تحت عنوان الانابة والاستسلام واتباع الأحسن.
وآخر دعوانا ان الحمد الله رب العالمين.