هل تصدق أنّ اليهود قدموا إلى الجزيرة العربية انتظاراً لظهور النبي (ص)؟!(51)
ولذلك سوف نتحدثُ في هذه المقالة عن أصل اليهود ونسبهم وأسمائِهم وتاريخِ إقامتهم في شبه الجزيرة العربية ثم عن موقفهم حينما دعاهم النبيُ (ص) إلى الإسلام.
اليهود يعود نسبهم إلى النبي إسرائيل (ع) :
يقالُ لليهود إسرائيليون وبنو إسرائيل نسبةً إلى نبي الله إسرائيل وهو يعقوبُ بنُ إسحاق بنِ إبراهيمَ الخليلِ (ع). فإسرائيلُ اسمٌ ثانٍ ليعقوبَ بنِ إسحاق, وقد تلطف الله سبحانه في خطابه مع اليهود في القرآن الكريم, حين أضافهم إلى النبي الكريم إسرائيلَ وخاطبهم غالباً ببني إسرائيل وذلك من أجل أن يذكرهم بهذا النسب الشريف عسى أن يحرك فيهم شعورَ الكرامة إن كان في نفوسهم شيءٌ منها. وأما وجهُ تسميتِهم باليهود فلأنَّ سِبطاً منهم ينتمي إلى يهوذا وهو الإبنُ الرابعُ للنبي يعقوب, وقد أطلق هذا الإسم (اليهودْ) فيما بعد على جميع نسلِ النبي يعقوب.
وأطلق القرآنٌ الكريم على اليهود عبارة (أهلُ الكتاب) وهي لا تعني أنهم أصحابُ علم بالكتاب وإنما المقصود بذلك أنهم أهلُ كتابٍ سماويٍ منزلٍ من عند الله هو التوراة, ويدخلُ في هذه التسمية أيضاً النصارى أي المسيحيين حيث أطلق القرآنُ عليهم عبارةْ (أهلُ الكتاب أيضاً) لوجود كتابٍ سماويٍ لديهم هو الإنجيل, وهكذا نعرف أن عبارة (أهلُ الكتاب) في القرآن الكريم يُقصدُ بها اليهودُ والنصارى, لكون كلٍ منهما يعتقد بوجود كتاب سماويٍ لديه.
أما فيما يتعلق بتاريخ اليهود فإنه من المعروف تاريخياً أن النبي يعقوب (ع) الذي كان يسكن في فلسطين هاجر بأولاده من فلسطين إلى مِصْر, حيث كان يُقيمُ ولدُهُ يوسُفُ وزيرُ فرعونَ آنذاك, فأعطاهم فرعونُ إكراماً ليوسفَ أرضاً خصبةً في مصر, وظلت سلالةُ يعقوبَ هناك أمداً غيرَ قصير.
ولكنَّ الفراعنةَ الذين جاءوا فيما بعد اضطهدوا اليهود, وساموهم سوءَ العذاب, فذبحوا الأبناء, واستحيوا النساء, واتخذوا منهم خدماً وعبيداً, ثم أرسل الله نبياً منهم ولهم, وهو موسى بنُ عِمران (ع) فحررهم من ظلم فرعونَ واستعباده, ثم طلب منهم العودةَ إلى فَلَسطين, وقتالِ أهلها ووعدهم النصر, فتقاعسوا وقعدوا عن الجهاد خوفاً وجبناً وقالوا لموسى (فاذهبْ أنت وربُك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون) المائدة 24 , فكتب اللهُ عليهم أن يتيهوا في صحراء سيناءَ أربعينَ سنةً, وفي هذه المدة تُوفيَ هارون, ثم أخوهُ موسى, فأتى بعده ابنُ أختهِ يُوشَعُ بنُ نون, وحوالي القرنِ الثالثَ عشرَ قبلَ الميلاد هجمَ بهم يُوشَعُ على أرض فَلَسطين فاحتلوها. وبعد يوشعَ أرسلَ اللهُ منهم الكثيرَ من الأنبياء فكذبوا فريقاً منهم وقتلوا فريقاً كما حدثنا القرآن الكريم عنهم.
اليهود يتيهون في الأرض عقاباً لهم :
وفي سنة خمسمئةٍ وستةٍ وتسعين (596) قبلَ الميلاد أغار على فَلَسطين ملكُ بَابِل وهو بختْ نَصَّر, فأزالَ مُلكَهُمْ من فَلَسطين وقتلَ منهم كثيراً وأسرَ منهم عدداً كبيراً. وظلوا في حكم بختْ نصَّر إلى سنة خمسمئةٍ وثمانٍ وثلاثين قبلَ الميلاد, حيث تغلَّبَ ملكُ الفرسُ على بختْ نصَّر, فتنفسَ اليهودُ الصُّعداء, واستمروا تحت سيطرة الفرس زُهاءَ مِئتي سنة, وبعدها وقعوا تحت حكم خلفاءِ الإسكندرِ الكبير, ثم تحت سيطرةِ الرومان.., وفي سنة مئةٍ وخمسٍ وثلاثين قبل الميلاد ثَارَ اليهودُ على الرومان, ولكنَّ هؤلاءِ تغلبوا على اليهود, وأخمدوا ثورتهم, ثم أخرجوهم من فلسطين, فهاموا على وجوههم في مختلِفِ بقاع الأرض شرقاً وغرباً... .
فشِرذَمَتٌ منهم فئة في مصر, وأخرى في لبنان وسوريا, وثالثةٌ في العراق, ورابعةٌ في الحجاز, أما اليمن فقد عرفها اليهودُ ورحلوا إليها للتجارة في عهد النبي سليمان (ع) الذي تزوج ملكةَ اليمن بلقيس. وفي الحجاز توزع اليهود بين مناطق: خيبر ويثرب (أي المدينة المنورة) وفدك وتَيْمَاء ووادي القرى.
اليهود في الجزيرة العربية انتظاراً للنبي (ص) :
ويستفاد من بعض النصوص الإسلامية أن السبب في إقامة اليهود في المدينة المنورة وجوارها وفي الحجاز عموماً, كان البحثَ عن النبي الموعود الذي بشرت به التوراةُ والكتبُ الدينيةُ التي أفادت بأن نبياً موعوداً سيظهرُ في هذه المنطَقة. وكانت منطَقةُ يثربَ التي تعرف اليوم بالمدينة المنورة المركزَ الأكبرَ لليهود عند ظهور الإسلام, وقد سكن في المدينة وضواحيها عدةُ قبائلَ يهودية أشهرُها: بنو النضير, بنو قينقاع, وبنو قريظة, وعندما هاجر النبي (ص) إلى المدينة المنورة, كانت هذه القبائلُ متمركزةً في المدينة, وكانوا هم السادةَ للحياة الإقتصادية فيها, فقد كانوا يحتكرون صياغةَ الذهب والفِضةِ وصناعةَ الأسلحة, ويتاجرون بالربا ويحتكرون جميع مصادر التجارة, ويستأثرون بالأرباح والثراء.
ولأن النبي (ص) كان يعلم طبيعةَ اليهودِ وعقليتَهُم وأوضاعَهُم مع أنبيائهم وخِدَاعَهُم واستغلالَهُم وما يمكنُ أن يقوموا به من دور تخريبي وإرهابيٍ في مواجهة الإسلام وهم الذين واجهوا كلَ الأنبياء قبلَه, أراد (ص) أن يلقيَ الحجةَ عليهم منذ البداية ويأخذَهم بأقوالهم, فترفقَ بهم وتلطفَ معهم, وأحسنَ معاملتهم لعلهم يؤمنون برسالته, فكتب بعد وصوله إلى المدينة عهداً بينه وبينهم مُوَقَّعَاً منه ومنهم, وأمَّنَهم فيه على أموالهم وأنفسِهم وأعطاهُمُ الحريةَ في ممارسة شعائرهمِ الدينية ومنحهم حقَّ المواطنيةِ في ظل الدولة الإسلامية الجديدة, بشرط أن لا يرفعوا السلاح بوجهه وأن لا يعينوا أعداءه ولا يتآمروا عليه ولا يتجاوزوا القوانين, وقد جعل لهم نصيباً في الغنائم إذا قاتلوا مع المسلمين, وفرض عليهم أن يشتركوا مع المسلمين في الدفاع عن المدينة تحقيقا للوحدة الوطنية لأن البلد للجميع لا لفئة دون فئة, ولكن سرعانَ ما نكثوا العهودَ كما سيأتي.
وبذلك يتضح أنه لم تكن علاقاتُ اليهود مع المسلمين سيئةً في الأيام الأولى من مجيء النبي (ص) إلى المدينة, إلا أنهم وبمجرد أن دعاهُمُ النبيُ إلى الإيمان برسالته امتعضوا منه وبدأوا يُعادونه, لأن العقلية اليهودية لا تلين أمام أي شيء يزحزحها عن دينها, وتأبى أن تعترف بوجود نبي من غير بني إسرائيل, على الرغم من كل الحقائق التي كانوا يعرفونها عن النبي (ص) ورسالته الجديدة استناداً إلى ما بشرت به التوراة.
الشيخ علي دعموش