غزوة الأحزاب زعزعت الإيمان في قلوب المؤمنين، فماذا حدث؟!(45)
فقد امتاز في هذه المعركةِ المؤمنُ الواقعيُ عن المتظاهر بالإيمان, وامتاز المخلص والصادقُ عن غير المخلص والصادق, لأنه من الواضح أنه في الحالات العادية والظروف الطبيعية من الصعب غربلةُ الناس واكتشافُ مدى صدقهم, أما في حالات الشدة والبلاء وفي الظروف الصعبة فإن الذين يقفون في الظاهر في خطٍ واحد وفي صفٍ واحد ينقسمون إلى صفوف مختلفة ويتم تمييزُهُم ومعرفةُ الثابت منهم من غير الثابت.
لقد أظهرتْ حربُ الخندق ومواقفُ المسلمين فيها, وجودَ ثلاثِ فئاتٍ في المسلمين, هي:
فئةُ ضعاف الإيمان، وفئةُ المنافقين، وفئةُ المؤمنين الحقيقيين.
وقد تحدث القرآنُ الكريمُ عن هذه الفئات واستعرض مواقفَهَا من أجل أخذ العبرة.
أما ضعافُ الإيمان: فقد وقعوا تحت تأثير الوساوس الشيطانية والظنونِ السيئة, فعاشوا الخوفَ والرعبَ والاضطرابَ والقلقَ الشديد عندما رأوا أن كل الأعداء قد اجتمعوا لقتالهم.
إن أحد شواهد هذا القلق والاضطرابِ الشديد, ما ذكره المؤرخون من أن عمروَ بنَ عبدِ ود عندما دعا المسلمين الى المبارزة لم يجروء أحدٌ على اجابته والتقدمِ لمبارزته وقتاله, إلا عليَ بنَ أبي طالب (ع) الذي هبَّ لمبارزته فقتلَه، وحققَ بذلك نصراً كبيراً للمسلمين. وقد صور القرآنُ موقفَ هذه الفئة بقوله تعالى في سورة الأحزاب:"إذ جاءوكم من فوقِكم ومن أسفَلَ منكم وإذ زاغتِ الأبصار وبلغتِ القلوبُ الحناجر, وتظنون بالله الظنونا, هنالك ابتُلِيَ المؤمنون وزُلزلوا زلزالاً شديداً" الآية 10/11.
"إذ زاغتِ الأبصار" أي مالتْ باتجاه واحد وإلى جانب واحد, كنايةً عن الخوف والاضطراب, "وبلغتِ القلوبُ الحناجرَ) من شدة الرعب (وتظنون بالله الظنونا) فقد خطرت على قلوب بعض المسلمين أفكارٌ خاطئة لأنهم لم يكونوا قد وصلوا إلى مرحلة الكمال من الناحية الإيمانية, فقد كان بعضُهم يفكر ويظنُ أن وعود النبيِ لهم بالنصر سراب, لن تتحققَ مطلقاً, وأن الهزيمةَ ستلحقُ بهم, وأن هذه الأيامَ هي الأيامُ الأخيرةُ من عُمُرِ الإسلام, وأن الجاهلية ستعود كما كانت... إلى غير ذلك من الظنون التي تفتقدُ عُمقَ الإيمان وثباتَهُ, وتبتعدُ عن الثقة بالله وبنصره.
المنافقون كيف تصرفوا؟! :
أما المنافقون: فإنهم عندما رأوا الأحزاب قد اجتمعوا وتحالفوا وحاصروا المدينة وهم يحاولون اجتياحها, اتخذوا عدةَ مواقفَ كما يذكر القرآن الكريم. أولاً: فهم قالوا (ما وعدنا اللهُ ورسُولُهُ إلا غُرورا), فهم كانوا يرون أن الله والرسولَ قد غررا بهم, لأن وعد الله ورسولِهِ كان النصرَ والفتح, وها هم أما حشود الأعداء المتحالفة لا يقوون على فعل شيء من جراء الخوفِ والرعب, وإلى هذا أشار القرآن بقوله :"وإذ يقولُ المنافقون والذين في قلوبهم مرض ما وعدنا اللهُ ورسولُهُ إلا غُرورا" الأحزاب 12.
وثانياً: قاموا بدور المخذّلين والمثبطين لعزائمِ الناس, فشلوا إراداتِ الناس عن الجهاد والقتال وكانوا يقولون للأنصار الذين التحقوا بجيش المسلمين: إنكم لا تقدرون على فعل شيءٍ في مقابل حشود الأعداء, فانْسحِبوا من المعركة ولا تُلْقُوا بأيدِيْكُم إلى التهلُكة والمذَلَّة, وبذلك كانوا يريدون أن يعزلوا الأنصار عن جيش الإسلام من أجل إضعاف المسلمين... وإلى هذا الموقف أشار القرآنُ الكريم بقوله تعالى: وإذا قالت طائفة منهم - أي المنافقين - يا أهلَ يثربَ لا مُقامَ لكم فارجِعوا" أي لا تقدرون على فعل شيء فارجعوا من حيث أتيتم.
وثالثاً: إن بعض المنافقين ونتيجةَ الخوفِ والضعف والجبن أصبحوا يختلقون الأعذارَ الواهية من أجل الفِرَارِ من ساحة الجهاد والرجوعِ إلى بيوتهم, فقد اعتذروا بأن بيوتهم "عورة" أي مكشوفة للعدو وأنهم لا بد أن يعودوا إليها لحمايتها وحمايةِ أولادهم ونسائهم وعوائلهم, والواقعُ أن بيوتهم ليست كذلك, ولكنه مجردُ عذرٍ واهٍ من أجل الفِرَارِ من ساحة المعركة, وإلى هذا أشار القرآن بقوله:" ويستأذنُ فريقٌ منهم النبي يقولون إن بيوتنا عورة وما هي بعورة إنْ يريدون إلا فِرَارا" الأحزاب 13.
المؤمنون الحقيقون انتظروا الانتصار :
أما المؤمنون الحقيقيون: فقد كان موقفُهُم مختلفاً تماماً, فإنهم لما رأوا الأحزاب لم ينحرفوا قيد أنملةٍ عن خطهم وعقيدتهم وإيمانهم, ولم يضعفوا, ولم يشككوا, ولم يتزلزلوا لحظةً واحدة, وإنما عبروا عن ثقتهم بوعد الله ورسوله, وعن صدقهم وإخلاصهم وعمقِ إيمانهم وثباتهم, فقد قال الله تعالى وهو يصف لنا حالَهم:"ولما رأى المؤمنون الأحزابَ قالوا هذا ما وعدنا اللهُ ورسُولُهُ وصدقَ اللهُ ورسُولُهُ وما زادهم إلا إيماناً وتسليماً" الأحزاب 22.
فأي وعد هذا الذي كان اللهُ ورسولُهُ قد وعدهم به؟. قال البعض: إنه إشارةٌ إلى الكلام الذي كان رسولُ الله(ص) قد تكلم به من قبلُ للمسلمين من أن اليهود والقبائلَ المشركة وكلَ الأعداء سيتحدون ضدكم ويأتون إليكم, ولكن اعلموا أن النصر سيكون حليفَكم في النهاية, فلما رأى المؤمنون هجومَ الأحزاب, أيقنوا أن هذا ما وعدهم به رسولُ الله (ص) وقالوا: ما دام الجزءُ الأولُ من الوعد قد تحقق, فمن المسلَّم به أن جزأَه الثاني وهو النصرُ سيتحققُ بعده, ولذلك زاد إيمانُهُم وتسليمُهُم وثباتُهُم.
وقال البعضُ الآخر: إن هذا الوعدَ هو ما ذكره ا للهُ سبحانه في الآية الرابعةَ عشَرَةَ بعد المئتين من سورة البقرة, حيث قال تعالى : "أم حسبتم أن تدخلوا الجنةَ ولما يأْتِكُمْ مَثَلُ الذين خَلَوْا من قبلكم مستهُمُ البأساءُ والضراءُ وزُلزلوا حتى يقولَ الرسولُ والذين آمنوا معه متى نصرُ الله". أي أنهم قيل لهم من قبلُ: إنكم ستخضعون لامتحانٍ عسير, فلما رأوا الأحزاب تيقنوا صدقَ إخبارِ اللهِ ورسولِهِ, وزاد إيمانُهُم وتسليمُهُم.
ومن الطبيعي أن هذين التفسيرين لا يتنافيان, خاصةً بملاحظة أن أحدَ الوعدين كان في الأساس وعدَ الله, والآخرَ كان وعدَ النبيِ (ص), وقد جاءا معاً في الآية موردِ البحث ويبدو أن الجمعَ بينهما مناسبٌ تماماً.
الشيخ علي دعموش