"بدر" لماذا كان حولها هذا الجدل التاريخي بين الإسلام والمستشرقين؟!(40)
ولعل أبرزَ نتائج هذه المعركة, أنها:
أوّلاً: عزّزت ثقة المسلمين والمستضعفين بأنفسهم, وثبّتت إيمان المترددين في إسلامهم وعقيدتهم وذلك بكسر شوكة أكبرِ قوة طاغية في شبه الجزيرة العربية.
ثانياً: أنها جعلت من المسلمين قوةً مرهوبةَ الجانب عند القبائل العربية المشركة.
ثالثاً: شجعت الكثيرين على الدخول في الدين الإسلامي بعد أن كانت قريش تشكل الحاجزَ النفسيَ والماديَ لهم.
رابعاً: أنها فتحتِ الأبوابَ أمام رسول الله(ص) والمسلمين في الانطلاق بحرية أكبر في نشر الدعوة الإسلامية.
الدلالات والعبر لمعركة بدر :
وفي معركة بدر أكثرُ من محطة للحديث, إن على مستوى الشبهات التي أثيرت حولها من قبل المستشرقين وغيرهم, أو لجهة الدَّلاَلاَتِ والعبرِ والدروسِ المستفادةِ منها. ونحن هنا نتحدث عن بعض هذه المحطات في ثلاث نقاط:
النقطة الأولى: بعض المستشرقين يتحدثون عن معركة بدر أنها لم تكن في بدايتها إلا محاولةً من المسلمين للإستيلاء على القافلة التجارية لقريش التي كانت قادمةً من الشام للحصول على ما فيها من بضاعة وأموال, وبذلك يحاول هؤلاء أن يصوّروا لنا أن هذه المعركة لا تختلف عن الغزوات الجاهلية التي كان يقوم بها العربُ في جاهليتهم من أجل الاستيلاء على أموال الآخرين, ويحاولُ هؤلاء أن يوجّهوا النقد للنبي(ص) وللإسلام فيعطوه الوجه العدواني الذي يعملُ على إتباع أسلوب الغزو من أجل الغنيمة لا من أجل الوصول إلى الأهداف الكبيرة التي جاء بها والتي تتمثلُ فيها القيمُ والمبادئُ الأخلاقيةُ والإنسانية.
الغايات الحقيقية لملاحقة قافلة قريش :
ولكن الواقع أن ملاحقة المسلمين لقافلة قريش التجارية في بدايات المعركة لم تكن من أجل الغنيمة والحصولِ على المال, وإنما كان الهدف من ذلك:
أولاً: جرُ المشركين إلى معركة مضمونةِ النتائج لمصلحة الإسلام ويبرزُ فيها المسلمون على أنهم قوةٌ في المنطقة, من أجل أن يُحقَ اللهُ الحقَ بكلماته ويقطعَ دابر الكافرين وتوضيح ذلك: أنه عندما يتعرض المسلمون لقافلة قريش فإن قريشاً لن تقف مكتوفةَ الأيدي تجاه ذلك بل إن ذلك سيدفعُها إلى قتال النبي(ص) والدخولِ معه في صراع مسلح من أجل حماية أموالها والحفاظِ عل طريقها التجاري الحيوي لئلا تقع هذه الطريق تحت سيطرة المسلمين, وهذا ما كان يريده رسولُ الله (ص) وهو أن يجرَّ قريشاً إلى معركة مسلحة.
أما ما هي الغاية من جر قريشٍ إلى معركة من هذا النوع فهي أن الوقت قد حان لابتداء الصراع المسلح بين الشرك والإسلام, وبين المسلمين والمشركين, فأراد الله ورسولُهُ أن تَحدُثَ هذه المعركةُ من أجل قهر المشركين والتغلبِ عليهم وإظهارِ الإسلام على أنه قوةٌ في المنطقة يُحسبُ لها حسابُها, وأن المسلمين لم يعودوا ضعفاء وإنما القوةُ إلى جانبهم وأن قريشاً هي التي في موقع الضعف وليست في موقع القوة.
ثانياً: إن الهدف من ملاحقة القافلة أيضاً كان الضغطَ على قوة قريش التجارية والاقتصادية, ولذلك فإن مواجهة قافلة قريش من قبل المسلمين لم تكن على الطريقة الجاهلية في الغزو الذي كان يستهدف الحصولَ على المال من أجل الحاجة إلى المال, بل كان الهدف من اللجوءِ إلى هذا الأسلوب, باعتباره أسلوباً من أساليب الحصار الاقتصادي والمضايقةِ التجارية لقريش من أجل الإيحاء بان النبي(ص) والمسلمين في موقع القوة وأنهم قادرون على مضايقةِ قريش إن هي استمرت في محاربة الاسلام فيدفعُها ذلك إلى أن تمتنع عن التمادي في مؤامراتها ضد الإسلام والمسلمين.هذا كله في النقطة الاولى.
النقطة الثانية: إننا نلاحظ في معركة بدر أن المسلمين كانوا يملكون قوةً روحية من إيمان وإخلاص وارتباطٍ بالله وثقةٍ به, كما أنهم كانوا يملكون قوةً مادية من سلاح ومال وخبرة عسكرية وإمكانات مادية أخرى وإن كانت محدودةً وضعيفةً بالقياس إلى قوة قريشٍ المادية.
هذان العنصران عنصرُ الإيمان وعنصرُ القوة المادية كانا متوافرين في بدر وأصحابها ومجاهديها وقد ساهما معاً في تحقيق الانتصار الكبيرِ في هذه المعركة. وما نستفيدُهُ من ذلك هو أنه لا الإيمانُ وحده كافٍ في كسب المعركة ولا القوةُ الماديةُ وحدها كافية, وإنما الإيمانُ عنصرٌ ضروريٌ في المعركة, والقوةُ الماديةُ عنصرٌ ضروريٌ أيضاً.
أن يتحلى المقاتلون والمجاهدون بالإيمان والثقةِ بالله والارتباطِ به والاعتمادِ عليه واللجوء إليه في حالات الشدة فذلك أمرٌ ضروريٌ ومطلوبٌ في المعركة التي يراد لها أن تنتصر لأن ذلك هو الذي يجعلُ الإنسانَ يحصلُ على قوةٍ روحية ومعنويةٍ تبعدُهُ عن حالات الخوف والقلق وتدفعُهُ إلى الثبات والتضحية في سبيل الله.
وأن يكون لدى المقاتلين قوةٌ ماديةٌ من سلاح وعتادٍ وخبرةٍ وكفاءة قتالية وإعدادٍ جيد وتخطيطٍ دقيق فذلك أمرٌ ضروريٌ ومطلوبٌ أيضاً, لأن الله جعل عملية النصر والهزيمة خاضعةً للوسائل الطبيعية المحكومةِ للاسباب المادية إلى جانب الأسباب الروحية, فالذي لا يملك القوةَ المادية ووسائلَ المعركة وأسبابَ الانتصار لا ينتصر وإن كان على حق. ولذلك أكد القرآنُ الكريم على ضرورة الإعداد العسكري من أجل تحصيل القدرةِ على مواجهة العدو من جهة وتحطيمِ القوةِ المعنويةِ له من جهة ثانية, عندما قال تعالى "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوَ الله وعدوَكم...".
الرسول يحرص على مشاركة أهل بيته في الحروب :
النقطةُ الثالثة: إننا نلاحظ أن النبي(ص) في معركة بدر قدَّمَ أهلَ بيته وأقرباءَه إلى القتال أولاً, فقد أمر في بداية المعركة حمزةَ وعلياً وعبيدةَ بنَ الحارث بالخروج إلى ساحة القتال أولاً لمبارزة الأعداء, وهؤلاء الثلاثة هم من أهل بيته (ص) لأن حمزةَ عمُ النبي وعلياً ابنُ عمه كما أن عبيدةَ ابنُ عمه الحارثِ بنِ عبدِ المطلب.
ولهذا السلوك النبوي دَلاَلاَتُهُ الكبيرة, لأنه عندما يبدأُ الرسولُ بأهل بيته في القتال فإنه بذلك يكون قد أثبت لكل المسلمين بالفعل وبالممارسة لا بالقول فقط, أنه لا يريدُ أن يجعلَ منهم وسيلةً للوصول إلى أهدافه الخاصة, وإنما هناك هدفٌ كبير وقضيةُ حق وعدل لا بد أن يساهم الجميعُ في العمل من أجلها, ويكون قد أثبت أيضاً أنه هو (ص) شريكٌ لهم في كل شيء في السرّاء والضرّاء وفي الشدة والرخاء فهو يضحي ويقدِّمُ في سبيل القضية والهدفِ قبل أن يُطلبَ التضحيةَ من غيره بل هو يحاولُ أن يدافعَ عن غيره ولو بأهل بيته وأقربِ الناس إليه.
وهذا ما يجبُ أن يكون مثلاً أعلى وأسوةً حسنة لكل قيادة إسلامية ولكل قائدٍ سياسي ولكل صاحبِ هدف فإن عليه هو أولاً أن يقدمَ التضحيات فإذا احتاج إلى مساعدة الآخرين وطَلبَ منهم أن يشاركوا في التضحية في سبيل الهدف او القضية فإن طلبَه منهم يكون له مبرراتُهُ, ويرى الناسُ كلُ الناس فيه انه صادقٌ ومخلصٌ وجادٌ ومحقٌ في طلبه, وليس للقائد أن يجلس في برجه العاجي هو وأولادُهُ وأهلُ بيته وأصحابُه ثم يصدّرٌ أوامرَه للآخرين دون أن يرى نفسه مسؤولاً عن التحرك في اتجاه الهدف إلا في حدود الكلمات والخطابات وإصدار الأوامر والمواقف.
الشيخ علي دعموش