حديث الجمعة 30-4-2021 - مكافحة الفساد في حكومة علي(ع)
نعزي صاحب العصر والزمان بذكرى شهادة امير المؤمنين علي بن ابي طالب(ع) في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 45 للهجرة، أمير المؤمنين(ع) الذي وقف بوجه الفاسدين، وكان من أشد المحاربين لظاهرة الفساد في الدولة، وقمة في العدالة .
إن مسألة تفشي الفساد في الدولة ومؤسساتها ولدى المسؤولين هي من اخطر الآفات التي تواجهها الدول والحكومات، فقد عانت الشعوب في كثير من الدول من حالة الفساد التي اتصفت بها الحكومات على مرّ الأزمان، وقد أُبتليت ختى الحكومة الاسلامية بعد وفاة رسول الله (ص) بهذه الآفة، حيث اتبع بعض الخلفاء سياسات أدت إلى استشراء الفساد في مفاصل الدولة، والى تولي اشخاص فاسدين مناصب عليا في الحكومة .
وقد تصدى أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) لحالة الفساد عندما تولى الخلافة بعد مقتل عثمان بن عفان، واتخذ فور توليه الحكم اجراءات صارمة على صعيد مكافحة الفساد اهمها :
1-عزل الولاة والموظفين الفاسدين.
2-استعادة الاموال المنهوبة.
3- الغاء سياسة التمييز الطبقي وارساء مبدأ العدالة في توزيع الثروات.
4- القضاء على سياسة المحاباة والمحسوبيات في التوظيف.
1-ففيما يتعلق بالامر الاول وهو عزل الحكام الفاسدين، فقد عزل امير المؤمنين(ع) جميع الذين كان قد عينهم عثمان حكاما على الولايات، وقد أشار عليه بعض أصحابه أن يبقيهم حتى تستتب له الأمور ثم يعزلهم، أو ان يعزل بعضهم ويبقي البعض الآخر، إلا أنه رفض ذلك رفضا قاطعا وعده مداهنة في الدين، وهذا يدل على مدى الفساد الذي كانت ترتكبه تلك الطبقة، وعندما طلب ابن عباس من أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) أن يثبت معاوية حاكما على الشام في البداية، فإن بايعه عزله فيما بعد، أجابه: لا والله لا أعطيه إِلَّا السَّيف، وهذا الموقف يبين مدى إصرار أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) على محاربة الفساد ورموزه، بكل الوسائل ومهما كلف الأمر، لما للفساد والفاسدين من تأثير على حياة الأمة، وسلب خيراتها، وظلم أهلها، لذا كان لا بد من قلع الفساد من جذوره، ليتحقق العدل الذي كان عنوان دولة أمير المؤمنين علي بن ابي طالب(عليه السَّلَام).
2-اما في مجال استعادة الاموال المنهوبة، فقد عمد امير المؤمنين (ع) الى مصادرة جميع الاموال التي نهبها بنو امية من بيت مال المسلمين، وأعاد كل الهبات التي وزعها عثمان عليهم إلى خزينة الدولة، وقد قال في ذلك (وَاَللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ اَلنِّسَاءُ، وَمُلِكَ بِهِ اَلْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ، فَإِنَّ فِي اَلْعَدْلِ سَعَةً وَمَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ اَلْعَدْلُ، فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ).
وكان بمقدور الامام ان يساوم من كان في السلطة على الاموال التي اكتسبوها بالطرق غير المشروعة، لكنه لم يفعل ذلك بالرغم من انه كان يعلم بان هذه الاجراءات ستحول حزب بني أُمية الى حزب معارض لحكمه والى فئة متآمرة على ولایته، ورفضه للمساومة مع هؤلاء لم يكن بدافع حقد شخصي عليهم، بل كان من اجل اقامة العدل الالهي وارساءه كمبدأ أساسي غير قابل للمساومة في الحكم والمجتمع الاسلاميين.
3-اما الغاء سياسة التمييز والتفضيل وارساء مبدأ العدالة في توزيع الثروات، فقد تجلى ذلك في السياسة التي اتبعها امير المؤمنين(ع) في العطاء وتوزيع الثروات، حيث خلافا لسياسة عثمان التي كانت تقوم على مبدأ التفضيل والتمييز في العطاء وتوزيع الاموال، فقد قام امير المؤمنين(ع) باتباع سياسة المساواة بين الناس في العطاء، وامر بتوزيع الاموال بين المسلمين بالتساوي بينهم، ولم يميز بينهم او يقدم احدهم على الآخر، وقد احتجت الطبقة الفاسدة على مساواتهم بعامة الناس، ونقموا على امير المؤمنين(ع) واحتجوا بانهم من السابقين في الاسلام، وان عليه ان يقدمهم ويفضلهم بالعطاء لفضلهم وتميزهم عن عامة الناس، فاجاب(ع)مشيرا الى ذلك: ” وَ لَوْ كَانَ اَلْمَالُ لِي لَسَوَّيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وَإِنَّمَا اَلْمَالُ مَالُ اَللَّهِ ثُمَّ قَالَ عليه السلام أَلاَ وَ إِنَّ إِعْطَاءَ اَلْمَالِ فِي غَيْرِ حَقِّهِ تَبْذِيرٌ وَ إِسْرَافٌ وَ هُوَ يَرْفَعُ صَاحِبَهُ فِي اَلدُّنْيَا وَ يَضَعُهُ فِي اَلآْخِرَةِ وَ يُكْرِمُهُ فِي اَلنَّاسِ وَ يُهِينُهُ عِنْدَ اَللَّهِ وَ لَمْ يَضَعِ اِمْرُؤٌ مَالَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَ لاَ عِنْدَ غَيْرِ أَهْلِهِ إِلاَّ حَرَمَهُ اَللَّهُ شُكْرَهُمْ وَ كَانَ لِغَيْرِهِ وُدُّهُمْ ….” .
4- اما في مجال التوظيف في مؤسسات الدولة والدوائر الحكومية فقد فرض امير المؤمنين على المدراء الالتزام بمعايير الكفاءة والخبرة والنزاهة، ورفض سياسة التوظيف التي تقوم على اساس المحاباة والمحسوبيات والقرابة تلك السياسة التي اعتمدها عثمان في تعيين المسؤولين والموظفين، وعندما عين امير المؤمنين مالك الاشتر واليا على مصر أوصاه فقال:” ثُمَّ اُنْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اِخْتِيَاراً اِخْتِبَاراً وَلاَ تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ اَلْجَوْرِ وَاَلْخِيَانَةِ وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ اَلتَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ مِنْ أَهْلِ اَلْبُيُوتَاتِ اَلصَّالِحَةِ وَاَلْقَدَمِ فِي اَلْإِسْلاَمِ اَلْمُتَقَدِّمَةِ فَإِنَّهُمْ أَكْرَمُ أَخْلاَقاً وَأَصَحُّ أَعْرَاضاً وَأَقَلُّ فِي اَلْمَطَامِعِ إِشْرَافاً إِشْرَاقاً وَأَبْلَغُ فِي عَوَاقِبِ اَلْأُمُورِ نَظَراً ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ اَلْأَرْزَاقَ فَإِنَّ ذَلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَى اِسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ وَغِنًى لَهُمْ عَنْ تَنَاوُلِ مَا تَحْتَ أَيْدِيهِمْ حتى يقول : وَتَحَفَّظْ مِنَ اَلْأَعْوَانِ فَإِنْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بَسَطَ يَدَهُ إِلَى خِيَانَةٍ اِجْتَمَعَتْ بِهَا عَلَيْهِ عِنْدَكَ أَخْبَارُ عُيُونِكَ اِكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ شَاهِداً فَبَسَطْتَ عَلَيْهِ اَلْعُقُوبَةَ فِي بَدَنِهِ وَأَخَذْتَهُ بِمَا أَصَابَ مِنْ عَمَلِهِ ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ اَلْمَذَلَّةِ وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيَانَةِ وَقَلَّدْتَهُ عَارَ اَلتُّهَمَةِ”.
وقد ضمن امير المؤمنين حسن سير الادارة وعدم فساد الموظفين من خلال اختيار ذوي الدين والضمير واصحاب الخبرة والكفاءة وايضا من خلال الرقابة الصارمة على أداء وسلوك الموظفين والمسؤولين والتي كان يقوم بها بنفسه او من خلال اللجان التفتيش الادري والعيون التي كان يبثها في الولايات للاتيان باخبار الحكام والموظفين وكان يرتب الاثر ويتخذ الاجراءات اللازمة عندما يكتشف من احدهم خيانة او اداءا او سلوكا خاطئا.
وهناك العديد من الرسائل الموجهة الى بعض ولاته التي تدل على ان الامام عليه السلام كان شديد الرقابة على ولاته وكان يحاسب وبعاقب ويوبخ من تثبت مخالفته للقوانين والضوابط الادارية والسلوكية، فعندما ارتكب عامله المنذر بن الجارود العبدي وكان ابوه رجلا صالحا خيانة في عمله عزله وكتب اليه: ” أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ صَلاَحَ أَبِيكَ غَرَّنِي مِنْكَ وَ ظَنَنْتُ أَنَّكَ تَتَّبِعُ هَدْيَهُ وَ تَسْلُكُ سَبِيلَهُ فَإِذَا أَنْتَ فِيمَا رُقِّيَ إِلَيَّ عَنْكَ لاَ تَدَعُ لِهَوَاكَ اِنْقِيَاداً وَ لاَ تُبْقِي لآِخِرَتِكَ عَتَاداً تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بِخَرَابِ آخِرَتِكَ وَ تَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ وَ لَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَ شِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ وَ مَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ أَوْ يُعْلَى لَهُ قَدْرٌ أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَةٍ أَوْ يُؤْمَنَ عَلَى جِبَايَةٍ فَأَقْبِلْ إِلَيَّ حِينَ يَصِلُ إِلَيْكَ كِتَابِي” .
ومن المعروف ان عزل الولاة وكبار المسؤولين عن مناصبهم ليس امر سهلا ، لانهم ربما يتحولون الى خصوم بل ومتآمرين على الحاكم، وقد فعل كثير منهم ذلك مع امير المؤمنين(ع) لكن الامام عليه السلام مع ذلك لم يساوم بل استمر بمحاربة الفساد في حكومته حتى طهرها من الفاسدين.
وفي موقف آخر وبخ الامام(ع)عثمان بن حنيف الأنصاري و كان عامله على البصرة لانه لبى دعوة اثرياء مدينته لموائد الطعام دون الفقراء، فقال في كتاب ارسله اليه:
أَمَّا بَعْدُ، يَابْنَ حُنَيْف، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلاً مِنْ فِتْيَةِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ دَعَاكَ إلى مَأْدُبَة، فَأَسْرَعْتَ إِلَيْهَا، تُسْتَطَابُ لَكَ الاْلْوَانُ، وَتُنْقَلُ إِلَيْكَ الْجِفَانُ، وَمَا ظَنَنْتُ أَنَّكَ تُجِيبُ إِلى طَعَامِ قَوْم، عَائِلُهُمْ مَجْفُوٌّ وَغَنِيُّهُمْ مَدْعُوٌّ، فَانْظُرْ إِلَى مَا تَقْضَمُهُ مِنْ هذَ الْمَقْضَمِ، فَمَا اشْتَبَهَ عَلَيْكَ عِلْمُهُ فَالْفِظْهُ، وَمَا أَيْقَنْتَ بِطِيبِ وُجُوهِهِ فَنَلْ مِنْهُ، أَلاَ وَإِنَّ لِكُلِّ مَأمُوم إِمَاماً، يَقْتَدِي بِهِ، وَيَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلاَ وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ.
أَلاَ وَإِنَّكُمْ لاَ تَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُوني بِوَرَع وَاجْتِهَاد، [وَعِفَّة وَسَدَاد] فَوَاللهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً، وَلاَ ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً، وَلاَ أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً.
واستعمل الامام اسلوب النصيحة احيانا والتحذير احيانا مع المسؤولين والولاة عندما كان يحس منهم الانحراف او السقوط في الشبهات فقد بلغه عليه السلام ان قاضيه “شريح القاضي” قد اشترى بيتاً بثمانين دينارا استدعاه للمسأءلة فوبخه على فعلته ونصحه ان لايفعل مثل ذلك قبل ان يرجع اليه في قصة طويلة نقتصر فيها على نصيحته اياه ” أَمَا إِنَّكَ لَوْ كُنْتَ أَتَيْتَنِي عِنْدَ شِرَائِكَ مَا اِشْتَرَيْتَ لَكَتَبْتُ لَكَ كِتَاباً عَلَى هَذِهِ اَلنُّسْخَةِ فَلَمْ تَرْغَبْ فِي شِرَاءِ هَذِهِ اَلدَّارِ بِالدِّرْهَمِ بِدِرْهَمٍ فَمَا فَوْقُ وَ اَلنُّسْخَةُ هَذِهِ: هَذَا مَا اِشْتَرَى عَبْدٌ ذَلِيلٌ مِنْ مَيِّتٍ قَدْ أُزْعِجَ لِلرَّحِيلِ اِشْتَرَى مِنْهُ دَاراً مِنْ دَارِ اَلْغُرُورِ مِنْ جَانِبِ اَلْفَانِينَ وَ خِطَّةِ اَلْهَالِكِينَ وَ تَجْمَعُ هَذِهِ اَلدَّارَ حُدُودٌ أَرْبَعَةٌ اَلْحَدُّ اَلْأَوَّلُ يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي اَلآْفَاتِ وَ اَلْحَدُّ اَلثَّانِي يَنْتَهِي إِلَى دَوَاعِي اَلْمُصِيبَاتِ..” .
وفي كتاب آخر نجد الامام علي عليه السلام يحذر عامله الاشعث بن قيس في آذربيجان من التصرف باموال الدولة من دون ان يرجع في ذلك الى لوائح ادارية اوقانونية ” وَ إِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ وَ لَكِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانَةٌ وَ أَنْتَ مُسْتَرْعًى لِمَنْ فَوْقَكَ لَيْسَ لَكَ أَنْ تَفْتَاتَ (تتصرف) فِي رَعِيَّةٍ وَلاَ تُخَاطِرَ إِلاَّ بِوَثِيقَةٍ وَ فِي يَدَيْكَ مَالٌ مِنْ مَالِ اَللَّهِ تَعَالَى وَ أَنْتَ مِنْ خُزَّانِهِ…”
وفي موقف ثالث نجد الامام (عليه السلام) يحذرمن لم تردعه النصيحة بألم العقاب وكل ذلك قبل وقوع الجريمة فقد بعث بكتاب الى زياد بن ابيه وكان خليفة عامله في البصرة يحذره اشد الحذر من التلاعب باموال الدولة ويقول ” وَ إِنِّي أُقْسِمُ بِاللَّهِ قَسَماً صَادِقاً لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ خُنْتَ مِنْ فَيْ ءِ اَلْمُسْلِمِينَ شَيْئاً صَغِيراً أَوْ كَبِيراً لَأَشُدَّنَّ عَلَيْكَ شَدَّةً تَدَعُكَ قَلِيلَ اَلْوَفْرِ ثَقِيلَ اَلظَّهْرِ ضَئِيلَ اَلْأَمْرِ وَ اَلسَّلاَمُ”
هذه شذرات من سياسة أمير المؤمنين (عليه السَّلَام) التي اتبعها عند توليه الحكم، للقضاء على الفساد، واقصاء الفاسدين، وضمان تحقيق العدالة في الدولة والمجتمع.