حديث الجمعة 5-2-2021 - فلسفة التشريع في خطبة الزهراء
نبارك للموالين ولعموم المسلمين ذكرى ولادة السيدة فاطمة الزهراء(ع) في العشرين من شهر جمادى الثاني، بضعة رسول الله محمد بن عبد الله(ص) وروحه التي بين جنبيه وسيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين.
عن الزهراء(ع) في خطبتها المشهورة (فجعل الإيمان تطهيراً لكم من الشرك ، والصلاة تنـزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكية للنفس ونماءً في الرزق والصيام تثبيتاً للإخلاص ، والحجَّ تشديداً للدين ، والعدل تنسيقاً للقلوب ، وطاعتنا نظاماً للملّة وإمامتنا أماناً من الفرقة ، والجهاد عزّاً للإسلام ، والصبر معونة على استيعاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحة للعامة ، وبرَّ الوالدين وقاية من السخط، وصلة الأرحام منماة للعدد ، والقصاص حقناً للدماء ، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، والمكائيل والموازين تغييراً للبخس ، والنهي عن شرب الخمر تنـزيهاً عن الرجس، واجتناب القذف حجاباً عن اللعنة ، وترك السرقة إيجاباً للعفّة ، وحرّم الله الشرك إخلاصاً له بالربوبية ، فاتّقوا الله حقّ تقاته ، ولا تموتُنَّ إلاّ وأنتم مسلمون ، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه ، فإنه إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء).
لم تدافع الزّهراء(ع) في خطبتها الَّتي خطبتها في مسجد رسول الله(ص) في جموع المهاجرين والأنصار، عن حقّها فقط، بل دافعت عن قيم الاسلام وتشريعاته، وتحدَّثت عن بعض أسرار التَّشريع، وفلسفة بعض الفرائض والواجبات العباديّة والاجتماعية وغيره، في المقطع الذي ذكرناه، وهو ما سنتحدث عنه بالإجمال هنا.
(فجعل الإيمان تطهيراً لكم من الشرك): فقد بدأت الزّهراء ( عليها السلام ) حديثها في هذا المقطع بالحديث عن الإيمان وفلسفته، بصفته الركيزة الأُولى التي يقوم عليه الاسلام فهي تؤكد لنا في هذه الجملة أنّ الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر الذي أوجب الله الالتزام به كعقيدةٍ، يمثّل المناعة الطبيعية التي يمتلكها الانسان المسلم لتجنب وباء الشّرك الذي يزلزل العقيدة ويهدّد كيانها ، لأنّ الشرك والإيمان لا يمكن أن يجتمعا في شخصية الانسان ، لأنّهما مفهومان متناقضان والعبودية المطلقة لله التي يفرضها الايمان لا يمكن ان تتحقق في شخصية الانسان المؤمن إذا دخل الشرك في نفسه.
(والصّلاة تنزيهاً لكم عن الكبر): فالصّلاة في فهم الزّهراء ( عليها السلام ) هي تهذيب للإنسان من التكبر والاستعلاء والاعتداد بالنفس، ورفع للإنسان من حضيض التكبُّر إلى مستوى التّواضع، لأنّ الانسان المصلي يشعر في قرارة نفسه مهما كان عظيما ومهما كان يملك من علم او مال او جاه او سلطة او قوة فهو يتساوى مع كل الناس في العبوديّة لله وحده والافتقار اليه والخضوع له والاستعانة به وطلب الهداية منه، فلا بدّ أن تزول من نفسه كل معاني التكبر والاستعلاء، فالصّلاة باعتبارها مصدرا لتربية النفس على الخضوع المستمر لله سبحانه بحيث تطبع حياة الإنسان كلّها بطابع هذا الخضوع، فإنها تنزّه الفرد والمجتمع المصلي من والغرور والاحتيال والاستعلاء ، انطلاقاً مما تبثُّه الصّلاة من إشعاعات روحيّة واجتماعية في نفسيّة الإنسان المسلم ومجتمعه.
(والزكاة تزكية للنّفس ونماء في الرّزق): وبعد ان ذكرت الزهراء (ع) فلسفة الصّلاة تحدثت في هذه الجملة عن فلسفة الزّكاة، على طريقة القرآن الكريم الذي دأب على ذكر الزكاة بعد ذكره للصّلاة في العديد من الآيات المباركة، وهذا يدل على مدى تأثّر الزهراء(ع) بالقرآن الكريم فهي تمثّل شخصيّة إسلاميّة رسم القرآن الكريم كلّ معالمها حتى في مثل هذه الأمور.
فالعلة من تشريع الزّكاة هي تزكية النّفس الإنسانية من الأنانيّة والاستئثار وتربيتها على تحسس آلم الفقراء والمحتاجين والشعور بحاجات الآخرين، لان غريزة حبّ التملُّك لدى الإنسان قد تسلب من الانسان الرحمة والعطف والشعور بالآخرين وقد تدفعه نحو الأنانيّة ، ففرض الله الزكاة لتهذيب وتوجيه غريزة التملُّك توجيهاً تربوياً ينتفع منه الفرد والمجتمع بعيداً عن عنفوان الاستئثار والاستبداد، فالزكاة تزكيةً تزكية للنُّفوس البشرية من أنانيّتها واستئثارها ودوافعها الشخصية والذاتية وتحويلها إلى طاقات إنسانيّة تهتم بالآخرين وتشعر بحاجاتهم وآلامهم وهمومهم وتسعى في خدمتهم والتخفيف عنهم، وعندما يشعر الفقراء والمحرومين بان الاغنياء واصحاب الثروات يساعدونهم ويدفعون لهم ما فرضه الله لهم من الزّكاة ، ستختفي من نفوسهم مشاعر البغضاء والأحقاد وستكون نظرتهم لهؤلاء نظرة حبًّ واكبار ، وسيتحوّل العداء القائم بين الاغنياء والفقراء إلى ودّ وإخاءٍ ووئام، وبذلك تصبح الزكاة عنصرا اساسيا في تزكية النفس وتربيتها على القيم والصفات الاخلاقية والانسانية النبيلة.
وهناك علة اخرى للزّكاة أشارت اليها الزهراء(ع) وهي تنمية الرزق (ونماء في الرزق) فليست الغاية من الزكاة تزكية النفوس من الاحقاد والبغضاء والأنانيّة فقط، وإنّما لها غاية تتعلّق بمحيط الإنسان ـ نفسه ـ فينمو رزقه وتزداد ثروته وتكثر خيراته.
وحين تعلن الزهراء (عليها السلام ) هذه الحقيقة لا تعلنها جزافا او من فراغ ، وإنّما تستقي هذه الحقيقة من القران الكريم الذي يقول : مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنفِقُونَ أموالهم فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنۢبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِى كُلِّ سُنۢبُلَةٍۢ مِّاْئَةُ حَبَّةٍۢ ۗ وَٱللَّهُ يضاعف لِمَن يَشَآءُ ۗ وَٱللَّهُ واسع عَلِيمٌ
ويقول تعالى في آية أخرى :« ولو أنّ أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركاتٍ من السّماء والأرض ».
فالله سبحانه يكافئ عباده الذين ينفقون من اموالهم في إطار الزكاة او غيره بالتفضُّل عليهم من نعيمه ورزقه فيزيد من ذلك الرزق الذي استخرج منه الزكاة ويفيض عليه من نعمه التي لا تعد ولا تحصى.