حديث الجمعة 22-1-2021 - التفقّه والالتزام بالحكم الشرعي
هناك الكثير من الممارسات والتصرفات والسلوكيات السيئة في مجتمعنا سواء على مستوى الممارسات الشخصية او على مستوى التعامل مع الاسرة او المجتمع او على مستوى المعاملات والتجارات وشؤون الحياة المختلفة، التي تصدر عن اشخاص متدينين او محسوبين على الخط المتدين، هي نتيجة للجهل بالاحكام الشرعية وعدم معرفة الحلال والحرام، او نتيجة الغفلة والاستهتار وعدم المبالاة بالحكم الشرعي.
فهناك من يهتم بالشكليات من الدين، ويهمل مراعاة الاحكام الشرعية والالتزام بمسائل الحلال والحرام، او يقوم ببعض الفرائض والواجبات، فيصلي ويصوم ويذهب للحج ويقرأ القران ويرتاد المساجد ويتقيد بما يتقيد به المؤمنون من مظاهرالايمان، ولكنه عندما يتعامل مع الناس سواء في بيته او مع اقربائه وجيرانه، او عندما يبيع ويشتري ويتعاطى مع الناس في مختلف الشؤون والمجالات، يكون أبعد الناس عن الدين واخلاق الدين واحكامه.
بل ان هناك تصرفات وانتهاكات ومعارك وجرائم ومجازر ترتكب باسم الدين وهي ليست سوى نتيجة سيئة لعدم التفقه في الدين، او لفهم الدين بشكلٍ سطحي يقتصر على الشكل دون العمق والمضمون.
فالجرائم التي قامت بها الجماعات التكفيرية خلال السنوات الماضية والى الآن، والانتهاكات التي ارتكبتها باسم الدين في العراق وسوريا وافغانستان وباكستان واليمن وغيرها، سببها الجهل بحقيقة الدين، وممارسة الدين بطريقة خاطئة لا وعي فيها ولا معرفة ولا فقاهة، فاساءت بذلك الى الاسلام وقيمه، وقدمته بصورة مخيفة ومشوهة ومهينة، بحيث بات الناس الذين لا يعرفون حقيقة الاسلام ينظرون الى الاسلام على انه دين الارهاب، ونشأ ما بات يعرف في الغرب بفوبيا الاسلام، بحيث بات الانسان يخجل من اعلان الانتماء إليه، وهذا كله يدلُّ على حجم المشاكل التي يُسبِّبها الجهل بالدين وعدم المعرفة الصحيحة بمبادئه واحكامه وتشريعاته الصحيحة.
من يدقق اليومَ يرى أن هذا الفكر الديني المنحرف والخاطىء والمشوه لا سيما الفكر الوهابي، إنما ينمو في البيئة الجاهلة المتخلفة والخاوية فكريا وثقافي التي لا تملك الفهم والوعي والبصيرة، ولا تدرك أخطار ما يفعلون، ويسعى هذا الفكر لتجنيد ملايين الناس تحت شعارات دينية زائفة، وتمارس الطقوس الدينية بأبشع صورها، وترتكب المجازر التي يندى لها جبين الإنسانية باسم الدين والقيم الإلهية، وكلّ ذلك إنما يتمُّ وسط الجماعات الجاهلة التي لم يكن لها حظٌّ من التعليم والتربية، ففقدت أغلى ما يمكن أن تتسلَّح به وهو الوعي والبصيرة، لتغرق في الضلال والانحراف والبعد عن القيم والدين، ولتكون مصداقا لقوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ .
نعم ، عدم التفقه في الدين وعدم الوعي بحقيقة الدين يؤدي الى مثل هذه النتائج والآثار السيئة في حياة المجتمعات، فيغرقها بالضلال والضياع والممارسات الخاطئة والمنبوذة، ويجعلها مجتمعات جاهلة تعيش التخلف والتردِّي الاخلاقي والإنساني، وتتورط بارتكاب الجرائم والوقوع في الحرام والشبهات.
ولذلك أكدت الروايات على ان من أبرز الاثار السيئة لعدم وعي الدين واحكام الدين والتفقه فيه هو:
اولا: الوقوع في الحرام ، لأن الجهل بالاحكام الشرعية وعدم معرفة الحلال والحرام مع وجود ابتلاءات ومستجدات كثيرة يؤدي بالانسان الى الوقوع بالمعصية من حيث يشعر ومن حيث لا يشعر .
فقد ورد عن عليّ عليه السلام قوله: "من اتجر بغير علم فقد ارتطم في الربا، ثم ارتطم".
ثانيا: التورُّط في الشبهات، لأنّ الانسان اذا لم يعرف الحكم الشرعيَّ، ولم يفهم الدين بشكلٍ دقيق، سيعمل بحسب ما يمليه عليه ظنّه ووهمه ، وقد يصيب مرة ويُخطئ مرات عديدة، وبالتالي سيكون مصيره الوقوع في الشبهات، وقد يتحوَّل هذا السلوك عنده شيئاً فشيئاً إلى سلوكٍ دائم، بل قد يتحوَّل إلى تصرُّفٍ يسلكه الكثير من الناس، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "من أراد التجارة فليتفقه في دينه، ليعلم بذلك ما يحلُّ له مما يحرم عليه، ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر، تورَّط في الشبهات".
ومن هنا ومن اجل تلافي كل هذه الاثار السيئة وعدم الانجرار وراء الافكار والممارسات المنحرفة والشعارات الدينية المزيفة، فان على الناس ان يتفقهوا في الدين، ويتعلموا مبادئه وأخلاقه واحكامه بشكل صحيح، ويسعوا لمعرفة صحيحة عن حقيقة الدين وجوهر الاسلام. وهذا ما اكدت عليه النصوص والروايات ايضا.
قال الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ﴾.
وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "إنّ لكلّ شي ء دعامة، ودعامة هذا الدين الفقه".
وعن الإمام الصَّادق (عليه السلام) : " لَوَدِدْتُ أَنَّ أَصْحَابِي ضُرِبَتْ رُءُوسُهُمْ بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَتَفَقَّهُوا " .
والتفقه في الدين لا يعني معرفة الاحكام الشرعية والحلال والحرام فقط، بل معرفة كل جوانب الدين، بما في ذلك عقائده ومبادئه ومفاهيمه واخلاقه واحكامه، فكما ينبغي ان يفهم الانسان الحلال والحرام وأن يبقى بحالة متابعة دائمة ودقيقة لكافَّة مستجدَّات الأحكام الشرعية وللمسائل المستحدثة، وان لا يقصر في تعلُّمها لكي لا تكون عاقبته الوقوع في الحرام والمعصية، فان عليه ايضا ان يتعلم اصول الدين وآدابه ومعارفه، لتكون لديه الحصانة المطلوبة في مواجهة الافكار والشبهات الخاطئة والضالة التي يراد من خلالها تشويه صورة الدين، او تشكيك الناس بدينهم وإبعادهم عن مبادئه وقيمه .
وعلى الانسان عندما يجهل باي حكم من الاحكام في أيّ باب من أبواب الفقه إن يبادر إلى السؤال عنه، ولا يخجل من السؤال، ولا يسمح لنفسه ان يعمل بحسب ظنه او اعتقاده، او يعمل بما يمليه عليه عقله او مصلحته او اهواؤه بدون علم ومعرفة .
فعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): "أفٍّ لكلّ مسلم لا يجعل في كلّ جمعة (أي أسبوع) يوماً يتفقّه فيه أمر دينه، ويسأل عن دينه".
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): "أيها الناس اعلموا أنّ كمال الدين طلب العلم والعمل به، وأنّ طلب العلم أوجب عليكم من طلب المال".
فالكمال الذي يطمح الانسان المؤمن للوصول اليه، يحتاج الى أمرين أساسيين:
الأول: طلب العلم واكتساب المعرفة وفهم احكام الحلال والحرام.
والثاني: العمل بما يقتضيه العلم والتقيد بالاحكام الشرعية والالتزام بها في مختلف المجالات حتى لو كانت على خلاف مصالحه واهواءه .
هناك اشخاص لا يتعرفون على الاحكام الشرعية ويستهترون ويتصرفون في مجال العمل وفق أهوائهم او بما تمليه عليهم عقولهم او بما يرونه مناسبا لهم ولمصالحهم، وهذا جهل غير مقبول وغير صحيح، هؤلاء عليهم ان يتعلموا الاحكام ويتفقهوا في الدين ولا يخضعوا دين الله لامزجتهم وعقولهم واهوائهم .
وهناك اشخاص يعرفون الحكم الشرعي، يعرفون ان هذا حلال وذاك حرام، لكنهم لا يعملون بما يعرفون، وانما يعملون بحسب ما تشتهيه انفسهم، فيتحول العلم الذي لديهم الى وبال عليهم ، فالعلم بلا عمل وبال على صاحبه، والعمل بلا علم يبعد صاحبه عن الصراط المستقيم.
فعن الإمام علي (عليه السلام): العلم بلا عمل وبال، والعمل بلا علم ضلال .
وعنه (عليه السلام): وإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر [الجائر] الذي لا يستفيق من جهله، بل الحجة عليه أعظم، والحسرة له ألزم، وهو عند الله ألوم .
ولذلك كله علينا ان نرفع من مستوى معرفتنا والتزامنا بالحكم الشرعي، وان لا نستهتر بذلك او نتهاون، بل ان نسأل عن حكم كل شيء مهما كان صغيرا، حتى لا نقع في الحرام ، علينا ان نتخلى عن نوازعنا ومصالحنا وتجارتنا الحرام، فطاعة الله وما عنده اعظم من كل مصلحة او منفعة او مال يمكن ان نحصل عليه عن طريق الحرام، فالحرام لا يبقى ولايدوم بينما ما عند الله خير وأبقى.
قال تعالى: (فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ).