حديث الجمعة ١٥-٥-٢٠٢٠ - فزت وربّ الكعبة
في الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 40 هجرية كانت شهادة علي(ع)، حيث قام أشقى الأشقياء عبد الرحمن ابن ملجم في الليلة التاسعة عشر من شهر رمضان المبارك بضربه بسيف مسموم على رأسه الشريف، وهو يصلي الفجر في مسجد الكوفة، فجرح جرحا بليغا، ثم ما لبس ان فارق الحياة شهيدا في سبيل الله، في الحادي والعشرين من الشهر المبارك.
والمعروف والمشهور أن ما جرى في تلك الليلة لعلي(ع) كان قد اخبر به النبي(ص) عليا(ع) عدة مرات، وكان علي(ع) في أواخر حياته ينتظر تحقيق ما اخبره به رسول الله (ص) ويترصد تلك الليلة بلهفة، شوقا للشهادة وطمعا في نيل الفوز والرضوان والكرامة عند الله سبحانه وتعالى، وعندما تحقق ما كان ينتظره كانت كلمته الوحيدة التي نطق بها في تلك اللحظات "بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله، فزت ورب الكعبة".
لقد سمع الإمام علي (ع) مرات عديدة عن لسان النبي (ص) أحاديث حول طريقة وكيفية شهادته:
1- ففي غزوة الخندق عندما برز الإمام علي(ع) أمام "عمر بن عبد ود العامري" ضربه اللعين على رأسه الشريف فجرى الدم على وجهه الكريم ولطخ لحيته، فقال له النبي (ص) وهو يداوي رأسه الشريف بيديه وينظف الدم الجاري على وجهه: "أينَ أنا يوم يضربك أشقَي الاخَرين عَلى رَأسِكَ ويخضِب لِحيتكَ مِن دَم رأسك".
2- وروي أن رسول الله (صلى الله عليه و آله) لما أنهى خطبته المشهورة التي خطبها في آخر جمعة من شهر شعبان وتحدث فيها عن فضل شهر رمضان، قام إليه أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام و قال : يا رسول الله ما أفضل الأعمال في هذا الشهر ؟ فقال : يا أبا الحسن أفضل الأعمال في هذا الشهر الورع عن محارم الله عز و جل . ثم بكى (ص) فقال له أمير المؤمنين : يا رسول الله ما يبكيك ؟ فقال : يا علي أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر ، كأني بك و أنت تصلي لربك ، وقد انبعث أشقى الأولين والآخرين شقيق عاقر ناقة صالح فيضربك ضربة على مفرق رأسك ، ويشقه نصفين ويخضّب لحيتك من دم رأسك .
فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) : يا رسول الله وذلك في سلامة من ديني ؟ فقال (ص) : في سلامة دينك..
3- وروي عن أمير المؤمنين انه قال : دخلت يوماً على رسول الله وفاطمة والحسن والحسين فبكى حين رآنا، وقال بعض من حضر: أما تسر برؤيتهم يا رسول الله؟ فقال: والذي بعثني بالحق نبياً أنا وهم لأكرم الخلق على الله تعالى وما على وجه الأرض نسمة أحب إليّ منهم، أما علي بن أبي طالب فانه أخي، وابن عمي، وخليفتي، ووصيي على أهلي وأمتي في حياتي وبعد وفاتي، محبه محبي، ومبغضه مبغضي، وهو مولى كل تقي، بولايته صارت أمتي مرحومة، وإنما بكيت على ما يحل بهم بعدي من غدر الأمة، وانه يزال عن مقامه ومحله ومرتبته التي وضعه الله فيها، ثم لا يزال كذلك حتى يضرب على قرنه في محرابه ضربة تخضب لحيته ورأسه في بيت من بيوت الله، في أفضل الشهور شهر رمضان، في العشر الأواخر منه، يضربه بالسيف شر الخلق والخليقة، ثم استعبر وبكى بكاءً شديداً.
4- وكان أمير المؤمنين (عليه السلام) في الأيام الأخيرة ينعى نفسه ، وكان (عليه السلام) يدعو ويسأل من الله تعجيل الشهادة وتارة يكشف عن رأسه ويرفع يديه للدعاء قائلاً: اللهم إني قد سئمتهم وسئموني ومللتهم وملّوني، أما آن أن تخضب هذه من هذه. ويشير إلى هامته ولحيته.
وفي شهر رمضان عام أربعين للهجرة كان الإمام يفطر ليلة عند ولده الحسن وليلة عند ولده الحسين وليلة عند ابنته زينب الكبرى زوجة عبد الله بن جعفر وليلة عند ابنته زينب الصغرى المكنات بأم كلثوم.
وفي الليلة التاسعة عشرة كان الإمام في دار ابنته أم كلثوم فقدمت له فطوره وفي الليلة التاسعة عشرة كان الإمام في دار ابنته أم كلثوم فقدمت له فطوره
وقدمت له طبق فيه رغيفين من خبز الشعير ووعاء فيه لبن وملح مطحون له، وعندما وقعت عيناه على الطعام وتأمله جيداً، هزّ برأسه فقال لها: قدمت إدامين في طبق واحد وقد علمت أنني متبع ما كان يصنع ابن عمي رسول الله (صلى الله عليه وآله) ما قدّم له إدامان في طبق واحد حتى قبضه الله إليه مكرماً، ارفعي أحدهما فإن من طاب مطعمه ومشربه طال وقوفه بين يدي الله. فرفعت اللبن الحامض بأمر منه وأفطر بالخبز والملح. وبعد أن شكر الله تبارك وتعالى قام لإداء الصلاة والدعاء. وبقي مستيقظاً طوال الليل وهو يقوم بإداء العبادة لله عز وجل. وكان يكثر الدخول والخروج من غرفته في تلك الليلة يقلب بصره في السماء
وينظر في الكواكب وهو يقول: والله ما كَذِبت ولا كذّبت ، وإنها الليلة التي وعدت بها. ثم يعود إلى مصلاّه و يقول: اللهم بارك لي في الموت و يكثر من قول: إنا لله وإنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ويصلي على النبي (صلى الله عليه وآله) ويستغفر الله كثيراً الى الفجر ثم توجه نحو المسجد فلما دخله ، صلى عدة ركعات في الظلام وانشغل بإداء تعقيبات الصلاة، وبعد ذلك صعد إلى سطح المسجد وأقام الأذان وأيقظ من كان نائماً في المسجد. ثم اتجه بهدوء إلى المحراب وشرع بإقامة الصلاة بقلب خاشع.
في تلك الليلة كان اللعين "ابن ملجم" قد تسلل الى المسجد ليقوم بخطته الخبيثة بضرب الإمام (ع) أثناء قيامه من الركوع أو السجود. لذلك وبعد بدء الصلاة وقف خلسة وتسلل إلى جانب العمود الذي يقف بجانبه الإمام علي(ع) لأداء الصلاة. ليقوم بارتكاب أفظع جريمة عرفها التاريخ حين تسنح له الفرصة. وعندما رفع الإمام (ع) رأسه بعد السجود، قام ذلك اللعين بضرب الرأس المبارك لنجم وإمام الحرية والعدالة بسيفه المسموم بألف ينار. لقد وقعت ضربة ذلك اللعين على نفس المكان الذي ضُرِب به الإمام بسيف ابن ملجم في غزوة الخندق. ففتحت رأسه الشريفة وجرى الدم عليها وتلطخ وجهه الكريم. فهتف أعز أصحاب رسول الله(ص) وهو يسقط في المحراب قائلاً: "بسم الله و بِاللهّ وعَلى مِلّةِ رَسولِ اللهِ: فزت وَرَبِّ الكعبة".
فعلي (ع) لم يصدر منه في تلك اللحظة الحرجة التي ضرب فيها اي رد فعل يمكن ان يصدر من انسان في مثل هذه الحالات، فهو لم يستغث باحد ولم ينادي احدا لانقاذه، ولم يُظهر الألم او الحزن لما حل به، ولم يواجه قاتله بالسب والشتم، ولم ينادي بالانتقام والثأر.. وانما صاح:" فزت وَرَبِّ الكعبة".
والملاحظ هنا ان الامام (ع) لم يقل "فزت" فقط بل اقسم على انه فاز ، اقسم انه حصل على الخير كله وعلى النجاح كله، وعلى السلامة كلها.. فقال: " فزت وَرَبِّ الكعبة".
وهذه الكلمة المقرونة بالقسم لها أبعاد ومعاني عميقة، وتكشف عن مسار طويل عاشه علي(ع) وكان زاخرا بالخير والنجاح والفوز والعطاءات والتضحيات وتحمل المسؤوليات واداء التكاليف..
الفوز هنا ليس مجرد الفوز بالشهادة في سبيل الله، او الفوز بالرضوان والجنان، او بلقاء الله ورسوله، فانه بالرغم من سمو وعظمة الشهادة والرضوان ولقاء الله، الا انها ليست وحدها المقصودة بهذه الكلمة ، فهناك أبعاد ومعاني اخرى لهذه الكلمة هي :
اولا: ان عليا (ع) قد أدى ما عليه من مسؤوليات وقام بكل ما هو مطلوب منه على مستوى التكاليف، وكانت حياته كلها جهادا وعطاءا وتضحية في سبيل الله، فكأنه في تلك اللحظة التي ضرب فيها تصور كل حياته واستعاد كل المسار الذي عاشه منذ ان كان طفلا في حضانة رسول الله(ص) الى كل المراحل التي مرت فيها الرساله، تصور كيف انه كان المجاهد الذي يتقدم الصفوف الأمامية للدفاع عن الرسالة والرسول في كل المواقع والمراحل التي مر بها الاسلام، وكيف انه تحمل مسؤولياته بعد رسول الله لحماية الاسلام من كل اشكال التحريف والتشويه وتزوير الحقائق، فأمير المؤمنين (ع) أكمل الدين والرسالة بعد رسول الله (ص) وتحمل المسؤولية كاملة من بعده، وادرك ان الشيء الذي أراده من خلال مسيرته الجهادية في سبيل إعلاء كلمة {لا إله إلا الله} حققه باستشهاده بمحراب الصلاة ليكون نموذجا جهاديا تقتدي به الاجيال الى يوم القيامة.
لقد استعاد علي في اللحظة التي ضرب فيها شريط حياته كلها فوجدها حياة مليئة بطاعة الله وعبادة الله والجهاد في سبيل الله ، فشعر عند ذلك بالفوز والنجاح والخير كله كما قال تعالى: (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) الاحزاب : 71
واقسم علي(ع)على الفوز لانه كان على يقين من انه قد أدى دوره على اكمل وجه في خدمة الاسلام.
ثانيا: ان عليا (ع) شعر عندما ضرب على ام راسه الشريف انه سيفارق الدنيا والله عنه راض، وانه سيختم حياته وهو في سلامة من دينه، وقد كانت غاية علي(ع) في كل مواقفه هي طاعة الله وعبادة الله والحصول على رضى الله ، وقد حصل على ذلك كله (وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ) سورة النساء:13
فعلي شعر بالفوز لانه كان الانسان الرباني الذي عاش لله واحب في الله وابغض في الله وصادق في الله وعادى في الله، وكان همه ان تنتهي حياته وهو على سلامة من دينه،ولذلك عندما بكى النبي (صلى الله عليه وآله) في آخر خطبته المعروفة في اخر جمعة من شعبان، سأله علي (عليه السلام) ما يبكيك يا رسول الله؟ قال أبكي لما يستحل منك في هذا الشهر، قال: يا رسول الله أوفي سلامة من ديني؟ قال: نعم في سلامة دينك. قال: إذن لا أبالي أوقعت على الموت أو وقع الموت علي .
ثالثا: فاز علي(ع) لانه قدم تجربة الاسلام الصافية في الحكم والسياسة والادارة والاجتماع والاقتصاد والدفاع والجهاد في سبيل الله، بعيدا عن المساومات والتسويات والصفقات، وقدم النموذج الكامل للشخصية الاسلامية بكل ابعادها، لانه كان الانسان الكامل بل في منتهى الكمال البشري بعد رسول الله(ص).
ولذك كله اذا اردنا ان نفوز على طريق علي(ع) فان علينا ان نسعى لنجسد في حياتنا ما جسده علي(ع) في حياته، بان نعرف طريق الحق ونضحي لاجل احقاق الحق، وان نسلك درب العلماء والمجاهدين لننفع انفسنا ونحمي مجتمعنا وبلدنا، ان نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر كما فعل علي (ع)، وان نحسن للاخرين ونقدم العون للمحتاجين ، وان نكون عونا للمظلومين على الظالمين، وللملهوفين والمقهورين على القاهرين والمستكبرين كما كان علي(ع) .
أن نكون دائما في الموقع الذي يحبه الله ورسوله، ويريده الله ورسوله، ويرضى عنه الله ورسوله،كما كان علي(ع) دائما وفي كل المراحل والمواقع، فاذا استطعنا ان نكون في طاعة الله ورسوله، عندها سنفوز كما فاز علي(ع) ونحصل على الخير كله والنجاح كله والسلامة في الدين والدنيا والآخرة. والحمد لله رب العالمين.