الحديث الرمضاني (13) صناعة الخير بلا مقابل
يقول الإمام (ع)في: وأجرِ للناس على يديّ الخير، ولا تمحقه بالمنّ.
الامام يطلب من الله ان يجعله صانعا وفاعلا وعاملا للخير وان لا يفسد عمله هذا بالمن. وهذا يدل على ان الاسلام يريد من الانسان المؤمن ان يكون عنصر خير في المجتمع لا عنصر شر وان يكون مصدر الخير والمعروف والاحسان والعطاء لكل الناس. ان يجري الخير علي يديه بشكل مستمر، وان تكون حياته مجبولة بالخير ، الخير لاهله والخير لاولاده والخير لجيرانه والخير لمجتمعه ووطنه ، ان يصتع الخير بلا مقابل وبلا انتظار الحصول على مكاسب وهذه هي تربية الاسلام لنا، يقول تعالى:(قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍۢ فَهُوَ لَكُمْ ۖ إِنْ أَجْرِىَ إِلَّا عَلَى ٱللَّهِ ۖ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ شَهِيدٌ)وفي هذه الجملة عدة امور لا بد من التوقف عندها :
الامر الاول:ان قول الامام: وأجرِ للناس على يديّ الخير: يستفاد من كلمة «أجرِ» أمرين:
1- أن الإمام (ع) ينسب فعل الخير الذي يفعله الإنسان إلى الله تعالى؛ حيث ان صيغة الطلب «أجرِ». تعني أن الانسان الذي يباشر فعل الخير ويقوم به هو واسطة ووسيلة، أما الفاعل الحقيقي للخير فهو الله تعالى. غاية الأمر أن هذه الوسيلة تقوم بفعل الخير باختيارها وارادتها وليست مجبرة على ذلك.
2- ان مادة «أجرِ» أي «جَ رَ يَ»، هذه المادة تفيد الدوام، بمعنى ان كلمة «أجرِ» تعني طلب دوام صدور الخير وليس مجرد الصدور؛ لأن الجري في اللغة: يعني الانتقال والحركة من مكان لآخر بشكل متواصل كما في جريان الماء، تقول مثلا صدقة جارية اي مستمرة ومتواصلة ولو ان الامام اراد طلب مجرد صور الخير لقال: (أصدِر على يدي الخير).وليس اجر..
أيضا فان كلمة «أجرِ» مصدرها الجريان أي وزن فعلان، ومعروف في كتب اللغة والصرف أن وزن (فَعَلان) يدلّ على الاستمرار وعدم الانقطاع، وهذا مثل قوله الله تعالى في وصف الحياة الآخرة بأنها هي الحيَوان ﴿وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان)أي الحياة المستمرة المتواصلة التي لا انقطاع لها. إن الله تعالى كثيراً ما ذكر الحياة الآخرة في القرآن الكريم ولكنه في هذه الآية آراد أن يؤكد صفة الحياة لها وأنها الحياة الحقيقية الخالدة والدائمة المستمرة، فاستعمل صيغة فعلان (حيوان) فهنا عندما يقول الامام(ع) واجري.. يعني ليصدر على يدي الخير بشكل مستمر ومتواصل من غير انقطاع.
والامر الثاني: ان الإسلام يريد الخير لجميع الناسفان قول الإمام (ع) «واجر للناس»، معناه أن الإمام يطلب من الله تعالى أن يجري على يديه الخير لجميع الناس، وليس للمؤمنين أو المسلمين وحدهم بل لكل الناس مؤمنين وغيرهم ومسلمين وغيرهم بل حتى لغير المؤمنين بدين أصلاً. ونحن نقتدي به وندعوا كما يدعو هو.
وهذه هي نظرة الإسلام إلى الناس حتى للذين نختلف معهم في الدين، فالله يقول:(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين).
وفي الحديث الشريف: الْجِيرَانُ ثَلاثَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ ثَلاثَةُ حُقُوقٍ حَقُّ الإِسْلامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ وَحَقُّ الْقَرَابَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ حَقَّانِ حَقُّ الإِسْلامِ وَحَقُّ الْجِوَارِ ،وَمِنْهُمْ مَنْ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ، الْكَافِرُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ .
وهذه هي أخلاق الإسلام في التعاطي مع الاخرين ان تصنع الخير لكل الناس بشكل دائم ومستمر حتى للذين تختلف معهم في العقيدة، فانه كما أن الله سبحانه وتعالى يعطي النعم للمؤمن والكافر والمتدين وغير المتدين ومن كان يؤمن بالله أو ينكر وجود الله ، فكذلك الإمام (ع) يطلب من الله ان يجري على يديه الخير لجميع الناس دون تمييز.
هكذا كان أهل البيت عليهم السلام، يجري الخير على ايديهم لجميع الناس، وقد روي أن الإمام الصادق (ع) كان يأخذ معه الخبز والتمر والحنطة في منتصف الليل يوزّعها على فقراء المدينة وهم نيام فيضعها تحت رؤوسهم فيقول له أحد اصحابه: جعلت فداك ، هل يعرف هؤلاء الحق ؟ يعني هؤلاء غير موالين لكم فكيف تعطيهم وتصنع الخير لهم؟! فقال: «(ع) لو عرفوا الحق لواسيناهم بالدُقّة اي لو كانوا موالين لاعطيناهم حتى الملح. الدقة الملح.
الامر الثالث: انه قال(ع) على يديّ وليس على يدي بصيغة المثنى (يديّ) وهي تفيد التوكيد، أي فليصدر كل الخير وكلّ العطاء مني بكلّ طاقتي وقدرتي، كما نقرأ في الدعاء: (يا باسط اليدين بالعطية)أي تعطي كلّ الفضل، فيديّ كناية عن مطلق العطاء والمبالغة في العطاء، فالامام لو قال: وأجرِ للناس على يدي الخير . لكان يطلب صدور الخير منّا للناس على الدوام، لكنه قال: وأجرِ للناس على يديّ الخير» فهو يعني طلب التوفيق لصدور الخير والإعطاء الدائم بكلّ طاقتنا وقدرتنا ، أي المبالغة في الإعطاء والاكثار من الاعطاء.