المتقون بين الإيمان بالديانات واليقين بالآخرة (12)
قلنا بأن القرآن الكريم طرح في بداية سورة البقرة خمس صفات من صفات وخصائص المتقين، وقد تحدثنا فيما سبق عن الخصوصية الأولى والثانية والثالثة وهي الإيمان بالغيب، وإقامة الصلاة، والإنفاق في سبيل الله مما رزقهم الله (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون).
وفي هذه الآية (والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما انزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) بين الله تعالى الخصوصية الرابعة والخامسة من خصائص المتقين.
اما الخصوصية الرابعة للمتقين فهي: الإيمان بجميع الأنبياء ورسالاتهم الإلهية وبالكتب التي أُنزلت عليهم.
والخطاب في الآية لنبينا محمد (ص) والمقصود (بما أُنزل إليك) هو الوحي المنزل على النبي (ص) أي القرآن والسنة النبوية معاً، لأنه (ص) (ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).
فالمتقون هم الذين يؤمنون برسالة النبي محمد (ص) وبالوحي الذي أُنزل عليه, وبالقرآن الذي جاء به من عند الله, لينسجموا في إيمانهم مع كل مفهوم من مفاهيم الإسلام ومع كل حكم من أحكام الإسلام.
والمقصود (بما أنزل من قبلك) الرسالات الإلهية السابقة والكتب التي أُنزلت على جميع الأنبياء السابقين.
فالمؤمنون هم الذين يؤمنون بنبوتك وبرسالتك يا محمد وبالوحي الذي أُنزل عليك, ويؤمنون أيضاً بنبوة جميع الأنبياء السابقين وبرسالاتهم السابقة وبالكتب التي أنزلت عليهم التي هي وحي منزل من الله سبحانه وتعالى، كزبور داود، وتوراة موسى، وإنجيل عيسى.
إذن: فالمتقون يؤمنون بتوراة موسى(ع) وبإنجيل عيسى (ع) ولكن التوراة والإنجيل الحقيقيين اللذين أوحى الله بهما على موسى وعيسى قد لا يكون لهما وجود اليوم إلا بمقدار ما نقله القرآن عنهما وبحدود ما نقلته السنة النبوية الصحيحة من بعض فقراتهما وكلامهما, وأما ما هو موجود اليوم من التوراة والإنجيل المتداولة فهي محرفة ومزورة وليست هي التوراة الحقيقية التي أُنزلت على النبي موسى (ع)، كما أن الأناجيل المتداولة لا يمثل اي واحد منها الإنجيل الذي هو وحي منزل من الله على النبي عيسى (ع)، ولذلك فليس المقصود من الإيمان (بما أُنزل من قبلك) هو الإيمان بهذه الكتب المتداولة والتي جُمعت مؤخراً تحت عنوان (الكتاب المقدس). فإن هذا الكتاب المشتمل على العهد القديم (أي التوراة) والعهد الجديد (أي الأناجيل الأربعة) محرفٌ كما قلنا حتى بشهادة المسيحيين أنفسهم.
فقد أعلن مجمع الفاتيكان الثاني الذي عقد فيما بين عام 1962 و 1965 فيما يختص بالعهد القديم ما نصه: "تسمح أسفار العهد القديم لكل إنسان بمعرفة من هو الله ومن هو الإنسان بما لا يقل عن معرفة الطريقة التي يتصرف بها الله في عدله ورحمته مع الإنسان، غير أن هذه الكتب (يعني أسفار العهد القديم) تحتوي على خصاص وأباطيل ومع ذلك ففيها شهادة عن تعليم إلهي.
وتفيد الترجمة الفرنسية المسكونية للكتاب المقدس TOBفيما يتعلق بنصوص أسفار العهد الجديد: "إن نص العهد الجديد تبدل نتيجة النسخ طوال قرون كثيرة, بحيث لم يعد بالإمكان الوصول إلى النص الأصلي".
وتقول دائرة المعارف البريطانية التي اشترك في تأليفها خمسمائة من علماء المسيحية تقول عن إنجيل يوحنا الذي هو أحد الأناجيل الاربعة المعتمدة في الكتاب المقدس ما نصه: "أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولا شك كتاب مزور، أراد صاحبه مضادة اثنين من الحواريين بعضهما لبعض وهم القديسان يوحنا ومتى".
فهذه النصوص صريحة في أن العهدين القديم والجديد محرفان وبالتالي فلا يمكن أن يكون المقصود من الإيمان بكتب الأنبياء السابقين الإيمان بمثل هذه الكتب.
والخلاصة: إن المتقين يؤمنون بالله, وبما بعث من الرسل, وبما أُنزل من الكتب السماوية التي تمثل الوحي الإلهي، وبما فيها من مبادئ ومفاهيم من دون فرق بين رسول وآخر، أو بين رسالة ورسالة، وبين ديانة وديانة أخرى.
وهذا ما أكد عليه القرآن الكريم ليس في هذه الآية فقط بل في اكثر من آية من آيات القرآن.
يقول تعالى في سورة البقرة آية 285 (والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله).
وقال تعالى: (يا ايها الذين آمَنوا آمِنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزَّل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورُسُله واليوم الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً) النساء / 136.
إذن فالإسلام لا يرفض الديانات الأخرى، والرسالات الاخرى، بل يدعو المؤمنين به إلى الإيمان بكل الأديان السماوية الاخرى, لانه لا يجد اختلافاً في المبادئ التي جاء بها الأنبياء ولا في اسس رسالاتهم, لانهم جميعاً جاؤوا لهداية الناس الى الصراط المستقيم ودين التوحيد وعبادة الله وحده، وكل واحد من الانبياء جاء ليكمل الدور الذي قام به النبي السابق إلى أن جاء الإسلام الذي يُعتبر امتداداً للرسالات السابقة ومكملاً لها.
فقد ورد عن المسيح (ع) قوله: إنما جئت لأكمل الناقوس. وورد عن النبي (ص) قوله: إنما بعثت لأتمام مكارم الاخلاق.
هذا الفهم وهذه الرؤية التي يحملها المؤمنون عن كل رسالات الله وعن جميع الاديان السماوية، تجعلهم في طليعة المنفتحين على كل أتباع الديانات الاخرى، وتجعلهم يرفضون ان تكون الرسالات الإلهية وسيلة للتفرقة والشقاق والنفاق.
هؤلاء الذين يحملون مثل هذا الإدراك يطهرون نفوسهم من روح التعصب, فلا يعانون من اية عقدة نفسية تجاه الديانات الاخرى، ولا يعيشون الروح الطائفية المعقدة تجاه أتباع الرسالات الأخرى.
بل على العكس من ذلك قد نجد الآخر هو الذي يعيش العقدة النفسية تجاه الإسلام كدين وكرسالة أراد الله لكل الناس أن يؤمنوا به ويسيروا على هديه في الفكر والعمل, باعتباره آخر حلقة من السلسلة التكاملية للأديان كلها.
ولذلك فقد حدثنا الله عن أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى بأنهم لا يؤمنون إلا بما أُنزل عليهم, فقال تعالى: (وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أُنزل علينا ويكفرون بما وراءه)البقرة/ 91.
ويقال: لما نزلت هذه الآية (الذين يؤمنون بالغيب) قالت اليهود والنصارى: نحن آمنا بالغيب. فلما قال تعالى: (ويقيمون الصلاة) قالوا: نحن نقيم الصلاة. فلما قال: (ومما رزقناهم ينفقون) قالوا: نحن ننفق ونتصدق، فلما قال: (والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أُنزل من قبلك) نفروا من ذلك. لأنهم يعانون من عقدة تجاه الأديان الأخرى.
وأما الصفة الخامسة من صفات المتقين فهي: انهم يوقنون بوجود الآخرة, أي بيوم الجزاء والحساب والثواب والعقاب (وبالآخرة هم يوقنون).
إنهم يوقنون بأن الحياة في هذا العالم ليست هي الهدف النهائي بل هي تمهيد وإعداد لحياة اخرى ولعالم آخر.
الحياة في هذا العالم شبيهة بحياة الجنين في بطن أمه، فحياة الجنين في الرحم ليست هي الهدف النهائي لخلق الإنسان بل هي مرحلة إعدادية من أجل حياة أخرى خارج الرحم, وهكذا حياتنا نحن في هذا العالم فهي ليست هدفاً نهائياً بل هي مرحلة نستفيد فيها من أجل حياة أخرى في عالم أسمى وأرفع من هذا العالم.
المؤمنون يقرون بأن عدالة الله المطلقة في انتظار الجميع، وانه لا شيء من أعمال الإنسان في هذه الدنيا يبقى بدون جزاء، بل كل الأعمال التي تصدر عن الإنسان في هذه الدنيا سيحاسب عليها في الآخرة وسينالُ الجزاء الذي يستحقه.
هذا اللون من الاعتقاد يجعل الإنسان يتحمل مسؤولية ما امر الله به وما نهى عنه، ويدفعه نحو تصحيح مواقفه وأعماله التي يمكن أن يطالب بها ويحاسب عليها.
الإيمان بيوم القيامة يصون الإنسان من ارتكاب الذنوب والمعاصي ويجعله يشعر بأن عليه أن يقوم بما فرضه الله عليه, وبما اراده الله منه, وبما حمله الله من مسؤولية في هذه الحياة.
الإيمان بيوم القيامة يهب الإنسان الشجاعة والشهامة، ويجعله يعشق الشهادة، لأن أسمى وسام يتقلده الإنسان في هذا العالم هو وسام الشهادة في سبيل الله وفي سبيل هدفٍ إلهي مقدس، والشهادة أحب شيء للإنسان المؤمن, وهي بداية لسعادة أبدية خالدة.
ونلاحظ في الآية أن الله عبر بكلمة (يوقنون) عندما تحدث عن الاعتقاد بالآخرة، بدل التعبير بكلمة يؤمنون كما فعل عندما تحدث عن الاعتقاد بالغيب والإيمان برسالات الأنبياء, فهناك قال: (الذين يؤمنون بالغيب.. والذين يؤمنون بما أنزل اليك وما انزل من قبلك) وهنا قال تعالى: (وبالآخرة هم يوقنون). وكأن التعبير بالإيقان للإشارة إلى أن المطلوب هو اليقين بالآخرة، اليقين الذي هو مرتبة خاصة من الإيمان والاعتقاد، اليقين الذي يعني رسوخ وثبات الشيء في القلب بالإضافة إلى رسوخه في العقل والفكر، فإذا صدق القلب بالإضافة إلى تصديق العقل, فذلك هو اليقين, وليس كل مؤمن بالآخرة هو من أهل اليقين بالآخرة.
فالعدول عن تعبير (يؤمنون) إلى (يوقنون) كأنه للإشارة إلى أن التقوى لا تتم إلا مع اليقين بالآخرة. لان اليقين بالآخرة لا يجتمع ولا يلتقي مع نسيان الآخرة، فالذي يوقن بالآخرة لا ينسى الآخرة, بخلاف الذي يؤمن بالآخرة بدون يقين وبدون أن يصل إلى مرتبة اليقين، فإن الذي يؤمن بالآخرة بدون يقين قد ينسى الآخرة فيرتكب أعمالاً وممارسات تتنافى مع إيمانه بالآخرة, فيتمرد على الله ويعصي الله ويرتكب الذنوب ولا يقوم بما فرضه الله عليه ولا ينتهي عما نهاه الله عنه، لكن إذا كان الإنسان على يقين بالآخرة وذاكراً لليوم الذي يحاسب فيه على أعماله الكبيرة والصغيرة، فإنه لا يرتكب المعاصي والذنوب ولا يقدم على الشيء الذي حرمه الله ولا على أي شيء يتنافى مع ذكر الآخرة، يقول تعالى: (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذابٌ شديد بما نسوا يوم الحساب) ص/ 36.
فالضلال عن سبيل الله إنما هو بنسيان الآخرة, اي ان الذي ينسي الآخرة ضال عن سبيل الله, بينما الذي على يقين بالآخرة وهو ذاكر للآخرة مع اليقين بها فهو من أهل التقوى.
(أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون).
هذه الآية تشير إلى النتيجة التي ينالها المؤمنون الذين يملكون الصفات الخمس المذكورة.
الله تعالى ضمن لهؤلاء هدايتهم وفلاحهم.
واستعمال حرف (على) في عبارة (على هدى من ربهم) يوحي بأن الهداية الإلهية مثل سفينة يركبها هؤلاء المتقون لتوصلهم إلى السعادة والفلاح, لأن حرف (على) يوحي غالباً بمعنى الاستعلاء.
واستعمال كلمة (هدى) في حالة الفكرة يشير إلى عظمة الهداية التي شمل الله بها المتقين، وتعبير (هم المفلحون) يفيد الحصر, اي أن الطريق الوحيد للفلاح والوصول إلى السعادة الحقيقية هو طريق هؤلاء المتقين المفلحين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين