الإيمان بالغيب من خصائص المتقين (10)
في بداية سورة البقرة قسًّم القرآن الناس من جهة ارتباطهم والتزامهم بخط الإسلام إلى ثلاث مجموعات:
المجموعة الأولى: المتقون: وهم الذين تقبلوا الإسلام والتزموا به في جميع أبعاده الفكرية والتشريعية والعملية.
المجموعة الثانية: الكافرون: وهم الذين لم يرتبطوا بالإسلام لا على مستوى العقيدة ولا على مستوى العمل، ولا يأبون أن يُظهروا عداءهم للإسلام في القول والعمل.
المجموعة الثالثة: المنافقون: وهم الذين يعيشون ازدواجية الموقف بين ما يُضمرونه في داخل أنفسهم وبين ما يُظهرونه أمام الناس، فهم ذوو شخصيتين: شخصيةٌ إسلامية أمام المسلمين، وشخصية معادية للإسلام أمام أعداء الدين، ولكن شخصيتهم الأصلية في العمق هي الكفر والمعاداة للإسلام وإن تظاهروا بأنهم ملتزمون بالإسلام.
هذه المجموعة وهذه الشريحة تضرُ بالإسلام بلا شك اكثر من المجموعة الثانية، ولذلك القرآن يقابلهم ويواجههم بشدة أكثر, هم اخطر على الإسلام والمسلمين لأنهم يعيشون في داخل المجتمع الإسلامي، ويمارسون فسادهم وانحرافهم وتخريبهم من داخل المجتمع.
تقسيم الناس إلى مجموعات ثلاث لا يختص بالإسلام كما أنه لا يختص بزمانٍ دون زمان, كل المذاهب الفكرية في العالم وحتى الحركات الثورية والجهادية في أي زمنٍ وُجدت، لها مؤمنون ملتزمون بخطها ونهجها، ولها معارضون صريحون في موقفهم العدائي منها، ولها منافقون يُظهرون الالتزام بها ويتخذون منها مواقف إيجابية في الظاهر، ولكنهم يُبطنون العداء لها.
الآيات التي قرأناها تدورُ حول المجموعة الاولى وهم المتقون، وتطرح خصائصهم وصفاتهم في خمسة عناوين:
الأول: الإيمان بالغيب، والثاني: الارتباط بالله من خلال إقامة الصلاة، والثالث: الارتباط بالناس من خلال الإنفاق مما رزقهم الله، والرابع: الإيمان بجميع الأنبياء والإيمان برسالاتهم الإلهية، والخامس: الإيمان بالآخرة ويوم القيامة.
فالخصوصية الأولى للمتقين المتلزمين بالإسلام هي: الإيمان بالغيب فهم يؤمنون بالغيب فما هو الغيب الذي يؤمنون به؟؟
في القرآن الكريم هناك اصطلاحان متقابلان (الغيب والشهادة) يقول الله تعالى (عالمُ الغيب والشهادة الرحمن الرحيم).
والرؤية الكونية الإسلامية تنظر إلى العالم على أنه مُكوّن من مجموع الغيب والشهادة، أي أنها تقسم العالم إلى عالم الغيب وعالم الشهادة.
عالم الشهادة أو الشهود والحضور هو عالم المحسوسات، فالأشياء والحقائق التي نحس بها ونشعر بوجودها ونراها بأم العين وتحدث أمامنا, كمعرفة أن الحديد جسم صلب وقاسي, أو كالشعور بالجوع والعطش، أو كالإيمان بوجود القرآن والحجر الاسود وغير ذلك مما ندركه بأحد حواسنا الظاهرة أو بالتجربة التي تعود إلى الحس, هذه الأمور تدخل في عالم الشهادة لأنها حاضرة وموجودة أمامنا نلمسها ونحس بها ونراها بأم العين.
وأما الغيب فهو المخفي والمستورالذي لا يُدرك فعلاً بأحد الحواس الظاهرة ولا يُدرك بالتجربة المادية ولا بالعلوم الاختبارية. فالأشياء والحقائق المخفية والمستورة التي لا يمكن التوصل إلى معرفتها الآن عن طريق الحواس أو عن طريق التجربة، ولكنها ثابتة ومتحققة في الواقع بكل ما لكلمتي الثبوت والتحقق من معنى، كعالم الملائكة, وعالم البرزخ, وحساب القبر، وتفاصيل الثواب والعقاب والجنة والنار, والصراط, واللوح المحفوظ وما إلى ذلك من الحقائق الثابتة.
هذه الأمور كلها تدخل في عالم الغيب وهي من الغيب الذي تحدث عنه القرآن, والأمور الغيبية هذه لا يمكن التوصل إلى معرفتها إلا بالوحي، والإخبار من الله ورسوله، عن طريق النصوص الثابتة والصحيحة.
وهكذا فإن الإيمان بالغيب لا يقتصر على الإيمان بالله والملائكة والوحي والقيامة وما إلى ذلك مما ذكرناه, بل يشمل كل الأحداث التي وقعت في الماضي مما أخبر به القرآن والنبي (ص) في السنة الصحيحة ولم نره بأم العين, كقصص الانبياء, بل وحتى نبوة النبي (ص) فإن إيماننا في هذا الزمان بنبينا محمد (ص) وسائر أنبياء الله هو من الإيمان الغيب.
وقد وردت كلمة الغيب في القرآن بهذا المفهوم في قوله تعالى: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك) والإشارة في الآية إلى قصص الماضين.
وورد في الحديث عن الإمام العسكري (ع) أنه قال: الذين يؤمنون بالغيب يعني بما غاب عن حواسهم من الأمور التي يلزمهم الإيمان بها, كالبعث والنشور والحساب والجنة والنار وتوحيد الله وسائر ما لا يعرف بالمشاهدة، وإنما يعرف بدلائل قد نصبها الله تعالى دلائل عليها.
وعن الصادق (ع) انه قال: (الذين يؤمنون بالغيب) أي آمن بقيام القائم (ع) انه حق. وهكذا فإن الإيمان بالغيب يشمل كل الحقائق غير المرئية وكل الأحداث غير المحسوبة التي وردت فيها النصوص, كالكثير من الكرامات والأمور الغريبة الخارقة للعادة التي نسبت إلى الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) كسجود الشجر لرسول الله (ص), وإطعامه الجيش في غزوة الخندق من فخذ شاة، وإروائه العطشى من أصابعه الشريفة، ورد الشمس لعلي (ع), وطي الأرض وما إلى ذلك من الأمور الغيبية مما هو مروي بكثرة في الأحاديث والنصوص المروية عن النبي (ص) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام).
ولا يصح نفي إمكانية وقوع وحدوث مثل هذه الأمور الغريبة والخارقة للعادة لمجرد استغرابنا لها واستبعادنا لوقوعها, بحجة أنها لا تنسجم مع روح العصر, أو أنها لا تنسجم مع العقل والتفكير السلم, فإنه ليس كل شيء نستبعد وقوعه وحصوله بحسب العادة يكون مما لا ينسجم مع العقل والتفكير السليم، الذي لا ينسجم مع العقل والذي يرفضه العقل وينفيه ولا يقبله هو تلك الأشياء التي يحكم العقل باستحالتها وبعدم إمكانها, للزوم التناقض منها, أو للزوم التضاد أو ما شاكل ذلك مما يلزم منه استحالة عقلية.
أما الأمور والأشياء التي لا يحكم العقل باستحالتها, أي لا يلزم منها استحالة عقلية, فإنه لا بد أن نتعامل معها على قاعدة أنها ممكنة عقلاً ونضعها في دائرة الإمكان وإن كانت غريبة وخارقة للعادة, ومستبعداً وقوعها بحسب العادة، ثم نتثبت بعد ذلك من وقوعها بطرق التثبت المتعارفة, فإن دلت الأخبار الصحيحة على وقوعها نقبلها ونؤمن بها ونتبناها، وكل ما لم يدل عليه دليل صحيح وسليم نرفضه ولا نقبل به.
فالكرامات والمعجزات والأمور الخارقة للعادة المنسوبة للأنبياء والأئمة (عليهم السلام) لا بد أن نتعامل معها على هذا الاساس, فما كان منها مما يحكم العقل باستحالته نرفضة ولا نقبله، وأما ما كان منها مما لا يحكم العقل باستحالته فلا بد ان نتعامل معه على قاعدة الإمكان, ثم تنثبت من حدوثه ووقوعه, فإن دلَّ الدليل الصحيح على أنه حدث وحصل نأخذ به ونؤمن به, حتى ولو كان غريبا ًوخارجا ًعن المألوف والعادة, وكل ما لم يثبت وقوعه ودل الدليل على أنه غير صحيح نرفضه ولا نقبل به, أما أن نرفض كل الحقائق الغيبية غير المألوفة والمستغربة ونحكم عليها بأنها لا تنسجم مع العقل ولا مع روح العصر! فهذا مما لا يستتند إلى أصول صحيحة في المنهج والتفكير السليم.
أضف إلى ذلك: أن هذه الطريقة في التعاطي مع الأمور والحقائق الغيبية قد تؤدي بنا إلى إنكار ونفي ما أخبر به القرآن الكريم من الأمور الغيبية والغريبة والخارجة عن المالوفة والعادة.
فقد أخبرنا القرآن بأن آصف بن برخيا أحضر عرش ملكة سبأ (بلقيس) في طرفة عين, أي في أقل من لحظة, فقال تعالى: (قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفُك، فلما رآه مستقراً عنده قال هذا من فضل ربي) النمل/ 40.
فالإتيان بعرش بلقيس في طرفة عين أمرغيبي وهو من الأمور الخارقة للعادة والخارجة عن المألوف, وهو بحسب المنطق الذي يتحدث فيه بعض المثقفين ممن ينادي بالعقلانية أمرٌ مستبعد وغريب بحسب العادة أيضاً, ولا ينسجم مع عقولنا وتفكيرنا، مع أننا نقبله ونأخذ به, لأن الوحي أخبرنا به ولأن القرآن أثبته واثبت وقوعه وحصوله، وإذن: لماذا لا نقبل بوقوع وحصول بعض الكرامات والأمور الغيبية الخارجة عن العادة والمألوف التي حصلت لنبينا (ص) ولعلي (ع) ولغيره من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مما ثبت وقوعه بالخبر الصحيح والأخبار الكثيرة المتواترة؟ فهل كان آصف بن برخيا الذي حدثنا القرآن عنه أنه أحضر عرش بلقيس في طرفة عين يملك من العلم أكثر مما كان يملكه رسول الله (ص) أو علي والائمة (ع)؟ وهل أن هذا الرجل أكرم عند الله من النبي (ص) وعلي والأئمة (ع) فمكنه من أن يفعل ذلك ولم يمكنهم من أن تصدر عنهم الكرامات والمعجزات والأمور الخارقة للعادة؟ ومن الواضح أن المقام العلي للنبي(ص) ولعلي(ع) أرفع بكثير من المقام العلي لآصف.
فقد جاء في الحديث أن ابا سعيد الخدري قال: سألت النبي (ص) عن معنى قوله تعالى: (قال الذي عنده علم من الكتاب)، فقال: هو وصي أخي سليمان بن داود وهو آصف بن برخيا.
فقلت له: ومن هو المراد في قوله تعالى في سورة الرعد ـ 43: (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) فمن هو (من عنده علم الكتاب)؟ فقال (ص): ذاك أخي علي بن أبي طالب.
فالواضح من هذا الحديث أن آصف (عنده علم من الكتاب) أي علم ببعض الكتاب وهو علم جزئي, بينما علي (ع) (عنده علم الكتاب) وهو علم كلي وعام وشامل, وهذا ما يوضح الاختلاف بين المقام العلي لآصف والمقام العلي لعلي (ع).
والخلاصة: أن الغيب الذي يصف القرآن المؤمنين والمتقين بأنهم يؤمنون به هو كل ما هو غائب ومستور عن الحواس مما هو ثابت ومتحقق في الواقع, كالأشياء والحقائق غير المرئية وغير المحسوسة التي ذكرناها.
الإيمان بالغيب هو النقطة الفاصلة الأولى بين المؤمنين بالاديان السماوية وبين منكري الخالق والوحي والقيامة, ومن هنا كان الإيمان بالغيب في رأسِ قائمة خصائص وصفات المتقين.
والأنبياء والرسالات الإلهية تنفي أن يكون الوجود محدوداً بالأمور المحسوسة والملموسة مما تحيط به العلوم التجريبية والمادية، وهي ترفع نظرة الإنسان إلى عالم أكبر وأوسع من هذا العالم الذي نحسه ونعيش فيه.
ومن هنا فالمؤمنون يعتقدون أن عالم الوجود أكبر بكثير من هذا العالم الذي نحسه، ويعتقدون بأن الإنسان بما يحمله من روح إنسانية يسمو بكثير على سائر الحيوانات التي ينحصر موقعها في العالم المادي والمحسوس، بينما الإنسان المادي يعتقد أن عالم الوجود محدودٌ بهذه الأشياء والحقائق التي نحسها ونلمِسُها ونراها ونشعر بها, وأن الإنسان جزءٌ من الطبيعة ينتهي وجوده بموته، فلا بقاء له ولا حياة أخرى يعيش فيها, وليس هناك فاصل كبير بينه وبين سائر الحيوانات.
والفرق بين الرؤية الكونية الإسلامية للعالم وبين هذه الرؤية المادية للعالم:هي أن الرؤية الأولى تربي الإنسان على أن يسعى باتجاه الحق والعدل والخير ومساعدة الآخرين، لانها تؤمن بوجود حساب وعقاب وثواب وحياة اخرى غيرهذه الحياة المادية وأرفع منها وأسمى, والرؤية الثانية المادية، لا تقدم للإنسان أي مبرر لممارسة هذه الأمور.. إلا الأمور التي للإنسان فائدة منها في حياته المادية، لأنها تؤمن بأن لا حياة وراء هذه الحياة المادية.
ولاجل هذه الرؤية نجد أنه يسود في حياة المؤمنين الحقيقيين التفاهم والأخوة والطهر والتعاون، بينما تهيمن على حياة الماديين روح الاستعمار والاستغلال وسفك الدماء والنهب والسلب، ولهذا فإن القرآن يتخذ من الإيمان بالغيب نقطة البداية على طريق التقوى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين