من هم الذين أنعم الله عليهم؟؟ (8)
إنه صراط المشمولين بأنواع النعم مثل: نعمة الهداية، ونعمة التوفيق، ونعمة القيادة الصالحة، ونعم العلم والعمل، ونعم الجهاد والشهادة، لا المشمولين بالغضب الإلهي، ولا الضائعين التائهين الضالين نتيجة انحراف أفكارهم وسوء أفعالهم وأعمالهم.
وفي هذه الآية حث ضمني لنا على طلب طريق الذين أنعم الله عليهم، وعلى اجتناب طريق المغضوب عليهم والضالين التائهين.
ولكن من هم الذين أنعم الله عليهم؟؟
الذين أنعم الله عليهم تُبينهم الآية الكريمة في سورة النساء: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا) 69.
وهذه الآية كما هو واضح تقسم الذين أنعم الله عليهم إلى أربع مجموعات:
1 ـ الأنبياء: أي رسل الله الذين كانوا طليعة السائرين والمضحين في سبيل هداية الناس ودعوتهم إلى الصراط المستقيم.
2 ـ والصديقين: وهم الذين يصدقون في القول, ويصدقون إيمانهم بالعمل الصالح، ويثبتون أنهم لا يدّعون الإيمان مجرد ادعاء فارغ من العمل والممارسة، بل مؤمنون بصدق بأوامر الله والتزام طاعته.
3 ـ والشهداء: وهم الذين بذلوا أرواحهم ودمائهم وقتلوا في سبيل الله والعقيدة.
4 ـ والصالحين: اي الذين بلغوا بأعمالهم الصالحة والخيرة والنافعة إلى المقامات الرفيعة، فالصراط المستقيم إذن: هو خط الأنبياء, وطريق الصديقين, ونهج الشهداء, وسبيل الصالحين.
ونحن في سورة الحمد نطلب من الله صباحاً ومساءً أن يجعلنا في خط هؤلاء الذين أنعم الله عليهم, لنكون مثلهم فننال الدرجات العالية التي وصلوا إليها, ومن أجل أن تشملنا نعم الله التي شملتهم.
وقد تقول: كيف يصح وصف هؤلاء بأنهم ممن انعم الله عليهم، وقد تسبب لهم الطريق الذي ساروا عليه بالآلام والمتاعب والمحن والأهوال الكثيرة؟؟ فالأنبياء واجهوا في طريقهم أنواع المصائب والبلايا والتحديات الكبيرة وتعرضوا للأذى الكثير حتى قال نبينا (ص): (ما أوذي نبي كما أوذيت). والشهداء مثلاً: واجهوا الموت والقتل وتحملوا في طريق الشهادة الآلام والعذاب، فكيف يصح أن نقول بأنهم ممن أنعم الله عليهم؟ وهل خسارة الأرواح تعد نعمة؟! ولذلك فقد يتخيل الإنسان أنه كان المناسب أن يقول الله: (صراط الذين اتعبتهم وأشقيتهم بالمصائب في سبيل هذا الدين؟! بدل أن يقول صراط الذين أنعم الله عليهم)!؟!؟
ولكننا نجيب على كل ذلك: إنه من المهم أن نفهم نحن هوية النعمة الإلهية التي يحصل عليها الإنسان من خلال عطاء الله وإحسانة وكرمه، وأن نعرف كيف نتلمس هذه النعمة، وما هي المفردات التي تتجسد فيها.
فهل تتجسد النعمة بالمال أو بالسلطة أو بالجاه أو بالمذهب والموقع، أو بالقوة الجسدية أو بالجمال أو بالنسب أو بما إلى ذلك.. حتى نقول إنه إذا خسر الإنسان شيئاً من ذلك يكون قد خسر النعمة والسعادة والراحة, أما أن النعمة هي شيء أرفع وأسمى من ذلك؟.
قد يشعرك المال بالطمأنينة والراحة النفسية والسعادة، ولكنها بالتأكيد طمأنينة وراحة وسعادة محدودة بحدود، لا تتجاوز قيمة المال نفسه، فإذا مرضت قد تستفيد من مالك لدخول أرقى المستشفيات، واستخدام أحدث الأجهزة، والاستفادة من خبرات أمهر الأطباء، ولكن هل هذا هو كل شيء، وهل حصلت بذلك على الطمأنينة والسعادة بأعلى مراتبها؟ وهل زال عنك هاجس الخوف والقلق على مصيرك وحياتك بصورة نهائية؟؟.
إن المال يمشي معك ويصل بك إلى حد معين ثم يقف عند هذا الحد، وكذلك الجاه والسلطة والموقع، وبعد ذلك لا بد أن تبحث من جديد عن السعادة والطمأنينة الحقيقية في غير ذلك كله، حتى تجد هذه السعادة متمثلة في رضى الله والإيمان والسكون بذكره عز وجل, كما قال تعالى: (يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى ربك راضية مرضية فادخلي في عبادي وادخلي جنتي) وأين المال والجاه والسلطة والموقع من الجنة؟.
وقال تعالى: (ألا بذكر الله تطمئن القلوب)، القلوب لا تحصل على الطمأنينة الحقيقية إلا إذا كانت مغمورة بحب الله وبذكر الله وبطاعته وبالتضحية في سبيل الله وبالجهاد والشهادة.
ولأجل أن الشهداء والأنبياء والصالحين والصديقين وصلوا إلى درجة رضى الله من خلال أعمالهم وجهادهم, لأجل ذلك يكون هؤلاء سعداء وفي نعمة حقيقية، هم في نعمة وسعادة وطمأنينة حقيقية حتى وهم يتألمون ويواجهون التحديات ويستشهدون ويخسرون زينة الحياة الدنيا، لأنهم وصلوا إلى غايتهم وحصلوا على مطلوبهم وهو رضى الله سبحانه وتعالى والقرب منه والفوز بلقائه, وهذه هي النعمة الحقيقية، لأن النعمة هي أن تحصل على مطلوبك وغايتك وهدفك، وهؤلاء قد حصلوا على ذلك بفعل عملهم وجهادهم وتضحياتهم.
وهذا ما يفسر لنا قول مسلم بن عوسجة أو سعيد بن عبد الله الحنفي للإمام الحسين في كربلاء: (لو علمت أني أقتل فيك، ثم أحيى ثم أحرق حياً ثم أذرى, يفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك). فهو حاضر أن يتحمل كل هذا العذاب والتعب في سبيل أن يفوز برضى الله وبلقاء الله, لأنه يعتبر أن ذلك هو النعمة الحقيقية.
وعلي (عليه السلام) كان يقول: (والله لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه). وحين ضُرب على رأسه في المسجد قال: (فزتُ ورب الكعبة).
وهذا الحسين يسأل القاسم بن الحسن فيقول له في كربلاء: (يا بني كيف الموت عندك؟ فيقول له هذا الغلام: يا عم أحلى من العسل).
وعندما قال ابن زياد لزينب (عليها السلام) كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟ قالت (عليها السلام): ما رأيت إلا جميلاً.
فهم بالرغم من كل الآلام والعذاب الذي تعرضوا له تقف زينب لتقول: ما رأيت إلا جميلاً، لأنها كانت ترى أن النعمة هي رضى الله والطاعة له والإحساس بالسعادة وبالفوز عنده سبحانه مهما كانت التضحيات والمعاناة وحجم المأساة.
إن المال والجمال والقوة وسوى ذلك لن يستطيع أن يمنحك هذه السعادة، ولأجل ذلك كله صح التعبير عن الشهداء والانبياء (بأنعمت عليهم) لأن النعمة هي الحصول على المطلوب والوصول إلى الغاية والهدف وهؤلاء حصلوا على مطلوبهم, وما تعرضوا له من الآلام والمتاعب والمعاناة لم يجعلهم يخسرون نعمة القرب من الله والحصول على أعلى الدرجات عنده سبحانه.
(صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) أي أن الصراط المستقيم كما قلنا هو السير على طريق الذين أنعم الله عليهم، وهو اجتناب طريق المغضوب عليهم ولا الضالين.
فمن هم المغضوب عليهم ومن هم الضالون؟ بعد أن عرفنا هوية الذين أنعم الله عليهم, فإن الذي يتضح من الآية الكريمة أن المغضوب عليهم والضالين هما مجموعتان لا مجموعة واحدة، والفرق بينهما:
إن المغضوب عليهم أسوأ وأحط من الضالين، أي أن الضالين هم: التائهون العاديون والمنحرفون العاديون عن خط الأنبياء والشهداء والصالحين. والمغضوب عليهم، هم التائهون المتعنتون أو المنافقون، ولذلك استحقوا لعن الله وغضبه، قال تعالى: (ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضبٌ من الله). وقال تعالى: (ويُعذبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظّانّين بالله ظَن السَّوْءِ عليهم دائرةُ السَّوء وغضِب الله عليهم ولعنهم وأعدَّ لهم جهنم).
المغضوب عليهم إذن يسلكون إضافة إلى كفرهم طريق العناد ومعاداة الحق ولا يتورعون عن مواجهة قادة الدعوة والمصلحين والمؤمنين بألوان التنكيل والعذاب والإرهاب.
قال تعالى وهو يحدثنا عن بعض ملامح اليهود: (وباءُوا بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتُلون الأنبياء بغير حقٍ ذلك بما عصًوا وكانوا يعتدون).
ومن هنا ورد في الروايات أن المغضوب عليهم هم اليهود، وهذا الفهم ينطلق من مواقف هؤلاء تجاه الإسلام والمسلمين، فالقرآن يصرح دائماً بأن اليهود يضمرون السوء والعداء والحقد على الإسلام والصالحين.
وطبعاً القول بأن المغضوب عليهم هم اليهود هو من قبيل التطبيق للآية, باعتبار أن اليهود هم من أبرز مصاديق المغضوب عليهم، والمعنى كل من عمل بعمل هؤلاء واتبع خطهم وتعاون معهم, فهم مغضوب عليهم.
وإذا كان الله قد غضب على هؤلاء فلا بد أن نغضب عليهم لغضبه عليهم، ولا بد أن نغضب على الذين يتعاملون معهم، فنتحمل مسؤولية هذا الغضب في الجهاد والمقاومة ضد فسادهم وعدوانهم وإجرامهم، لنضع حداً لإرهابهم واعتداءاتهم واحتلالهم لللارض والمقدسات.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين