التوحيد في العبادة والاستعانة (5)
وعلاقة هذه الآية بالآيات السابقة، أن الآيات السابقة تحدثت عن الاعتقاد بالتوحيد وبربوبية الله للعالمين ومالكيته ليوم القيامة، وبعد رسوخ هذه العقيدة في قلبِ وعقلِ الإنسان, وبعد أن يقرَّ بالإيمان ويعترف بالربوبية وبيوم الجزاء، ينعكس هذا الاعتقاد الفكري على واقعه العملي وعلى سلوكه وعلى مواقفه، فيندفع إلى عبادة الله وحده, وإلى استمداد العون منه وحده دون سواه، ليجسد إيمانه وعقيدته بالعمل والممارسة والطاعة، لأنه لا يكفي في الإسلام أن يكون الإنسان مؤمناً في فكره وفي قلبه, وأن يعيش العقيدة في إطار العقل والتصور، بل لا بد أن يعيش ما يعتقدُ به في العمل والممارسة وفي الارتباط بالله، وفي الطاعة لله، وفي العبادة له, لأن الإيمان هو: اعتقادٌ في القلب, وإقرارٌ باللسان, وعملٌ بالجوارح والأركان، ومن هنا نعرف أن الكلمة التي يتداولها بعض الناس من أن الإيمان بالقلب, ويقولون: بأننا مؤمنون بقلوبنا وليس بالضرورة ان نمارس إيماننا بالعمل! هؤلاء واهمون ومخطئون, ويحاولون من خلال هذه الكلمة أن يعفوا انفسهم من مسؤولية العمل والعبادة والطاعة، وأن يبرروا لأنفسهم عدم التزامهم بما أمر الله، لأنه لا قيمة للإيمان الذي يبقى في دائرة القلب والفكر، ولا يتجسد في العمل والممارسة والسلوك.
ويلاحظ الإنسان في هذه الآية (إياك نعبد وإياك نستعين) كيف يتغير لحن السورة، فبعد أن كان العبد يتحدث عن الله بصيغة الغائب في الآيات السابقة، فيقول: (الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين) يقفُ في هذه الآية ليخاطب الله على طريقة خطاب الحاضر للحاضر فيقول: (إياك نعبد وإياك نستعين) فيخاطب الله وكأنه أمامه، لأن الإنسان بعد أن يعتقد بربوية الله ويعترف بيوم القيامة، وبأن الله هو الحاكم وهو المالك وإليه يرجعُ الأمر كله، يشعر بعد كل ذلك أن الله قريبٌ منه، وأنه حاضرٌ بين يدي الله وأنه في ساحتهِ وفي رعايته، فيخاطبه ويناجيه ويتحدث إليه عن تعبده له, وعن الاستعانة به حتى كأنه حاضرٌ أمامه إلى درجة الإحساس المباشر، وهذا يحي بأن علينا أن نتوجه إلى الله، وأن نشعر به، وأن نتعامل معه، على أساس أنه حاضرٌ وقريبٌ منا, يشاهدنا ويراقبُنا ويرى أعمالنا حتى كأنه أمامنا, نشعر به ونحس بوجوده بشكل مباشر.
والمقصود بالعبادة في قوله تعالى: (إياك نعبد) هو الانقياد المطلق لإرادة الله في أوامره ونواهيه, والطاعة المطلقة والخضوع المطلق لله سبحانه وتعالى، ويتحقق هذا المفهوم للعبادة بالصوم، والصلاة والحج، والزكاة لوجه الله عزوجل، كما يتحقق بكل عمل أمر الله به وفرضه على عباده من موقع معرفته بمصلحتهم وما ينفعهم وما يضرهم.
والمقصود بالاستعانة في قوله تعالى: (وإياك نستعين) هو طلب المعونة والمساعدة في العمل، أي العون في كل المهمات والأعمال والحاجات, فعندما تقول (إياك نستعين) يعني يا رب نحن نستمد العون في كل أمورنا منك وحدك لا من سواك, ونتوكل عليك وحدك ونعتمد عليك وحدك, وتقديم كلمة (إياك) على كلمتي (نعبد ونستعين) يفيد تخصيص وحصر العبادة بالله, وتخصيص وحصر الاستعانة به عزوجل.
وهذا التخصيص ينتج: التوحيد في العبادة من جهة, والتوحيد في الاستعانة والأفعال من جهة أخر. أما التوحيدُ في العبادة: فهو الاعتراف بأن الله سبحانه هو وحده اللائق بالعبادة والطاعة والخضوع والتذلل دون سواه، كما يعني تجنب أي نوع من العبودية والتسليم والخضوع لغير ذاته المقدسة.
توحيد العبادة: يعني الاتجاه بالعبادة إلى الله وحده في صلاتنا وفي صومنا وفي أذكارنا وفي ركوعنا وسجودنا وفي دعائنا وفي مناجاتنا وفي كل أعمالنا العبادية، يعني ان كل توجه ينبغي أن يكون لله وحده، وكل استقامة لله وحده وكل صلاة وعبادة فهي له وحده، فنحن من أجل الله نحيا ومن أجل الله نموت, كما قال إبرهيم (ع) فيما حكاه القرآن (إني وجهت وجهيَ للذي فطر السموات والأرض حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين) ـ الأنعام/ 79. وكما في قوله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرتُ وأنا أول المسلمين) الأنعام / 162.
وتوحيد العبادة رفض عبادة المزاج الشخصي, فالإنسان الذي يتحرك بما يشتهي وطبق ميوله النفسيه فيتخذ هواه النفسي اتجاهاً وقبلةً له، فيطيعُ هواه ويخضع له وينسحق أمام شهواته ويخضع لأطماعه ويتذلل لها كما يتذلل للإله, فهو في الحقيقة يعبد هواه وهو نوع من أنواع الشرك بالله، فالله تعالى يقول: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه)).
توحيد العبادة: يعني رفض الخضوع للطواغيت والمستكبرين، وهذا شعار كل الأنبياء (ان اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) النحل/ 36.
والشخص الذي يخضع لأوامر شخص لم يأمر الله بطاعته من المقامات والزعامات بحيث يكون عبداً لهم ومسحوقاً أمامهم, فهو في الحقيقة يعبدهم ويتخذُهم أرباباً من دون الله, فقد حدثنا الله عن جماعة (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله) وأمرنا أن (لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله).
وهكذا فإن الله يريد منا أن تكون عبادتنا خالصة لله, بعيداً عن حالات الرياء, لأن الرياء وهو أن يقف الإنسان ليتوجه بالعبادة إلى الناس ليحصل على المنزلة والكرامة والسمعة عندهم, هو لون من ألوان الشرك بالله.
وقد ورد عن الإمام الصادق (ع) عندما سُئل عن تفسير قوله تعالى: (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً) الكهف/ 110 قال (عليه السلام): هو الرجل يعمل شيئاً من الثواب لا يطلب به وجه الله, وإنما يطلب تزكية الناس, يشتهي أن يسمع به الناس، فهذا الذي أشرك بعبادة ربه.
والإنسان المرائي كما أنه لا يحصل على ثواب عبادته من الله لأنه أشرك بالله في عبادته, كذلك فهو أيضاً لا يحصل على ثواب عمله حتى ممن توجه إليهم بالعمل والعبادة, ورآء لهم.
فقد ورد عن رسول الله (ص) انه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم الشِرك الأصغر، قيل: وما الشِرك الأصغر؟
فقال (ص): الرياء، فإن الله تعالى يقول يوم القيامة إذا جاز - أي مرَّ- العباد بأعمالهم: اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون لهم في الدنيا هل تجدون عندهم ثواب أعمالكم؟ّ!
فالمرائي لا هو يكتسب أجر عمله من الله, ولا هو أيضاً يحصل على أجر عبادته ممن رآء لهم, وإذن فهو ليس له من عمله إلا التعب والعناء والسهر والحسرة كما ورد في الحديث: كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والظمأ -أي العطش- وكم من قائم ليس له من قيامه إلا العناء والتعب.
ومما يذكر في هذا المجال: أن رجلاً قصد في إحدى الليالي مسجداً حيث يقوم ـ في خلوة ـ بالعبادة والمناجاة حتى الصباح.
وفي منتصف الليل سمع صوتاً فخيل إليه أن إنساناً مثله جاء المسجد للعبادة، لكنه لم يره بسبب الظلمة ـ فراح بهذا الإحساس ـ يزيد من التظاهر بالخشوع في العبادة والبكاء في المناجاة، وكان يشعر بالسرور في قلبه لأن هذا الشخص سيروي حالته في تلك الليلة للناس، فيحصل منهم على المنزلة والسمعة والشهرة، ويصبح لديهم عزيزاً كريماً.
وحين أشرق الصباح وانجلت الظلمة، رأى أن صاحب الصوت كان كلباً تسلل إلى المسجد وزحف إلى زاوية منه, فأطلق الرجل من صدره الحسرة وراح يلوم نفسه ويقول: هكذا يفعلُ الرياء بأهله. فالمراؤن ليس لهم إلا مشقة السهر وتعب العبادة وعناء العمل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين