معنى مالكية الله ليوم القيامة (4)
وكلمة (مالك) مأخوذة من الملك، والملك يمثل أعلى درجات الاستيلاء والسيطرة. (والدين) بمعنى الجزاء والمكافأة، فيوم الدين هو يوم الجزاء في الآخرة.
فتعبير (مالك يوم الدين) يوحي بسيطرة الله التامة، وهيمنته المستحكمة على كل شيء في ذلك اليوم, وعلى كل فرد فيه، حيث يقوم الناس لرب العالمين من أجل الحساب، ويقف الناس أمام مالكهم الحقيقي، حيث تجازى كل نفس بما كسبت، ويرى كل إنسان ما عمله وما قاله وما أقدم عليه، بل وحتى ما فكّر به حاضراً أمامه، يقول تعالى في سورة الكهف: (ووجدوا ما عملوا حاضراً) 49.
ويقول سبحانه في سورة آل عمران: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء..) 30.
إذن فلا يضيع شيء في ذلك اليوم مهما كان صغيراً، ولا يُنسى شيء مهما كان صغيراً، والإنسان وحده هو الذي يتحمل مسؤولية أعماله ونتائج أفعاله التي صدرت منه في الحياة الدنيا.
وهنا قد نسأل عن نوع ملكية الله يوم القيامة، هل هي كملكيتنا نحن للأشياء في هذه الدنيا؟ أو كملكيتنا لأعضائنا وجوارحنا؟ أو أنها ملكية من نوع آخر؟؟
من المفيد جداً أن نفهم أن مالكية الله في ذلك اليوم، ليست ملكية اعتبارية كملكيتنا نحن للاشياء في هذا العالم، فإن ملكيتنا للاشياء ناشئة من اعتبارنا كعقلاء بأن الشيء الفلاني لك وملكك, لأنك اشتريته ودفعت ثمنه، وأن ذاك الشيء لفلان وملك له, لأنه ورثه عن أبيه مثلاً, وهكذا ملكية الناس لما في أيديهم, فإنها ليست إلا اعتبار كونهم مالكين لتلك الأشياء, وأن أمرها بيدهم يتصرفون بها كما يريدون, وذلك عند حدوث أسباب تقتضي أن يكونوا مالكين, من بيع وشراء أو هبة أو هدية أو إرث أو غير ذلك.
وهذ النوع من المالكية قابل للزوال والإنهيار والإنفساخ والانتزاع, وذلك عند حدوث اعتبار آخر ومعاملة أخرى وبيع آخر, فاليوم قد تكون مالكاً لشقتك وغدا ًقد تزول ملكيتك لها عندما تبيعها لإنسان آخر ويتحول إلى مالك لها.
فمالكية الله ليوم الدين إذن ليست ملكية اعتبارية كملكيتنا نحن للاشياء.
ومالكية الله لذلك اليوم ليست أيضاً مالكية طبيعية مثل ملكيتك ليدك أو لرجلك أو لعينك أو لغير ذلك من جوارحك، فإن ملكيتك لأعضائك، وإن كانت أقوى وأشد من ملكيتك لسائر الأشياء الأخرى، إلا أن هذه الملكية أيضاً قد تخضع لبعض الحدود أو القيود، وقد تنتزع منك من قبل جهة أقوى وأقدر منك، هي قابلة للانتزاع من قبل الله عز وجل إذا أراد الله ذلك، فإن الله قادر على أن ينتزع منك حتى ملكيتك لجوارحك, لأن ملكيتك لجوارحك وأعضائك ليست ملكية حقيقية, وبالتالي فلا يعقل أن تكون ملكية الله لهذا الكون من هذا النوع.
مالكية الله ليوم الدين ويوم القيامة هي مالكية حقيقية، تتمثل في ارتباط الموجودات والأشخاص والأشياء ارتباطاً خاصاً بالله عز وجل، بحيث لو انقطع هذا الاربتاط لحظة لزالت الموجودات، تماماً كما يزول النور من المصابيح الكهربائية حين ينقطع اتصالها بالتيار الكهربائي.
وبعبارة أخرى: مالكية الله للعالم منبثقة عن خالقيته عز وجل وربوبيته لكل ما في هذا الوجود، وإحاطته بجميع ما في هذا الوجود، وهيمنته على كل الموجودات، وسلطته الدائمة والثابتة على كل ما في الكون.
فالله الذي خلق الموجودات ورعاها ورباها، وأفاض عليها الوجود والحياة لحظة بلحظة, هو المالك الحقيقي لهذه الموجودات.
ومالكية الله للموجودات ملكية ثابتة وراسخة ودائمة، ليس فيها ضعف ولا وهن، وهي غير قابلة للانتزاع ولا للاعتبار ولا للتحديد أو التقييد, كما أنها غير قابلة للزوال والإنهيار والسقوط.
هذا الفهم لمالكية الله يجعلنا ندرك بعمق أن الله هو مصدر كل المالكيات الأخرى، الاعتبارية، والطبيعية، فهو الذي يعطيها الوجود والحياة، وهو الذي يلغيها ويتصرف فيها متى شاء وكيف يشاء. (مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء).
وفي يوم القيامة كل الارتباطات المادية والملكيات الاعتبارية وحتى الطبيعية تنفسخ وتزول ولا يعود لها أي تأثير.
(يوم لا تملك نفسٌ لنفس شيئاً والأمر يومئذٍ له).
فالمالكية الوحيدة الموجودة في ذلك اليوم هي مالكية الله الحقيقية. (لمن الملك اليوم، لله الواحد القهار).
إذن: كل المالكيات الأخرى تزول وتتلاشى حتى ملكيتنا لأعضائنا ولسائر جوارحنا فلا يملك أحد لأحد ضراً ولا نفعاً، ولا يملك أحد أن يدفع عن نفسه ولا عن غيره بيد ولا بلسان ولا بمال ولا بموقف ولا بغير ذلك.
إن أحداً يوم القيامة لن يكون قادراً على التصرف بماله ولا بقوته ولا بموقعه الاجتماعي أو السياسي ولا بلسانه أو يده ولا بغير ذلك.
الله وحده هو الحاكم وهو المالك وهو المحاسب وهو المجازي، ولله وحده حق التصرف في كل شيء كيفما يريد بمقتضى مالكيته الحقيقية.
والتركيز على مالكية الله ليوم القيامة في هذه السورة التي نرددها عشر مرات يومياً على الاقل، يجعلنا نستحضر خصائص تلك المحكمة الإلهية العادلة في ذلك اليوم، فهي ليست محكمة ظالمة تمارس سلطتها بطريقة عشوائية وجائرة، وهي محكمة لا تتأثر بالوساطات والمحسوبيات، إنها محكمة تستند إلى أعمال الإنسان نفسه، عندما يجد الإنسان ما أقدم عليه من عمل محضراً أمامه، محكمة شهودها أعضاء المتهم, يده ورجله وعينه ولسانه وجلده، شهود لا يمكن إنكار شهادتهم.
(حتى إذا جاؤوها شَهِد عليهم سمعهم وأبصارُهم وجلودُهم بما كانوا يعملون، وقالوا لجلودهم لِماَ شهدتهم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء..) ـفصلت 20/21.
(اليوم نختمُ على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلُهم بما كانوا يكسبون) ياسين/ 65.
إن الاعتقاد بيوم القيامة، والإيمان بوجود محكمة بهذه الخصائص وغيرها، يولد لدى الإنسان شعوراً مختلفاً قد لا يولده الاعتقاد بالتوحيد وبالنبوة، فالاعتقاد بيوم الحساب يجعل الإنسان يشعر بأنه مسؤول ومطالب ومحاسب على كل ما يصدر منه، وليس حراً في أن يفعل كل ما يحلو له, أو أن يتصرف على حسب أهوائه ومزاجه، بل عليه أن يتحمل المسؤولية في حياته بين يدي الله في كل ما كلفه الله به من إطاعة أوامراه ونواهيه، وأن عليه أن يعيد النظر في كل صغيرة وكبيرة، أن يعيد النظر في أفكاره، وفي مشاعره، وفي سلوكه، وفي خطواته، وفي مواقفه وفي علاقاته، وفي ارتباطاته العاطفية، وفي كل شأن من شؤون حياته، مما يمكن أن يطالَب به أو يُحاسَب عليه يوم القيامة، لأن ذلك هو ما تفرضه طبيعة وجود يوم الجزاء، لأن الجزاء لا يكون إلا على الطاعة أو المعصية.
فالإيمان بيوم الحساب يدفع الإنسان إلى أن يتحمل مسؤولياته في الحياة، ويفرض على الإنسان أن يعمل بطاعة الله لينال ثوابه، وأن يبتعد عن معصية الله لينجو من عذابه وعقابه.
والإيمان بيوم الحساب يجعلنا نردد ما قاله أمير المؤمنين (عليه السلام): والله لأن أبيت على حسَك السعدان مُسهّداً ـ أي على الشوك صاحياً سهراناً ـ أو أُجَرَّ في الأغلال مُصفّداً ـ أي مقيداً بالحديد ـ أحبُّ إليَّ من أن القى الله ورسوله يوم القيامة ظالماً لبعض العباد، وغاصباً لشيء من الحطام..) خطبة / 224.
فلنتقي الله في كل خطوة من خطوات حياتنا, وفي كل مواقفنا وعلاقاتنا قبل فوات الأوان.
يقول تعالى: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مُشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مالِ هذا الكتاب لا يغادرُ صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يَظلِمُ ربُك أحداً) الكهف / 49.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين